العميد.. أبرز أزماته النفسية.. كراهية الطعام.. ورؤية «عيدان القصب» سياجًا خانقة
أهم الحكايات من لوح طفل «الكيلو» فى منزله إلى محطة القطار المتجه إلى القاهرة
4 سنوات رأى طه حسين فيها الدنيا بعينه قبل أن يُغمضها محتفظًا بما رآه، ليبدأ رحلة جديدة من البصر والبصيرة، رأى فيهم الدنيا بعقله وقلبه..
ولد "طه حسين" في قرية الكيلو (إقليم المنيا) عام 1889، وكان سابع ثلاثة عشر من أبناء أبيه، وخامس أحد عشر من أشقائه، وكان يشعر بأن له بين هذا العدد الضخم من الشباب والأطفال مكانًا خاصًا يمتاز من مكان إخوته وأخواته، وكما ذكر في كتابه «الأيام» أنه كان يحس من أمه رحمة ورأفة، وكان يجد من أبيه لينًا ورفقًا، وكان يشعر من أخوته بشيء من الاحتياط في تحدثهم إليه ومعاملتهم له، ولكنه كان يجد إلى جانب هذه الرحمة والرأفة من جانب أمه شيئا من الإهمال أحيانًا، ومن الغلظة أحيانًا أخرى، وكان يجد إلى جانب هذا اللين والرفق من أبيه شيئًا من الإهمال.
ثمة فترة في حياة الطفل "طه" لم تأخذ حقها من التأمل وهي رحلة خفوت الضوء في عينيه.. الأيام بين الرؤية وانعدامها.. رحلة غروب البصر ورحيله.. تلك مرحلة حسرة لم يُدركها إلا بعدما كبر وتذكرها وتذكر كيف كان يتحول حقل القصب أمام دارهم إلى أسياج من الحديد تمنعه من الحركة، كيف كان يستجمع ما بقى من نظره ليحدد الرؤيا فيقف طويلًا قبل المغيب رافضًا استدعاء أخته إلى الدخول، فتخرج وتشده من ثوبه فيمتنع عليها، فتحمله بين ذراعيها، وتعدو به إلى حيث تنيمه على الأرض وتضع رأسه على فخد أمه، ثم تعمد هذه إلى عينيه المظلمتين فتفتحهما واحدة بعد الأخرى، وتُقطر فيهما سائلا يؤذيه ولا يجدى عليه خيرًا، وهو يألم ولكنه لا يشكو ولا يبكى لأنه كان يكره أن يكون كأخته الصغيرة بكاء شكاء.
تنيمه أخته على حصير قد بسط عليها لحاف، وتلقى عليه لحافًا آخر، وتذره وفي نفسه الحسرات، ليست تلك هذ الذكرى الوحيدة أو إن صح القول الحادثة الوحيدة في صباه لكن هناك من منعته الطعام وأعمت يده عن "الصحون" وأوجدت عداوة بينه وبين "الملاعق"، كانت أمه كعادتها تشرف على حفلة الطعام، ترشد الخادم وترشد أخواته اللائى كن يشاركن الخادم في القيام بما يحتاج إليه الطاعمون، وكان يأكل كما يأكل الناس، ولكن لأمر ما خطر له خاطر غريب! ما الذى يقع لو أنه أخذ اللقمة بكلتا يديه بدل أن يأخذها كعادته بيد واحدة؟ وما الذي يمنعه من هذه التجربة؟ لا شيء، وإذا فقد أخذ اللقمة بكلتا يديه وغمسها من الطبق المشترك ثم رفعها إلى فمه، فأما إخوته فأغرقوا في الضحك، وأما أمه فأجهشت بالبكاء، وأما أبوه فقال في صوت هادىء حزين: "ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بنى".
من ذاك الوقت تقيدت حركاته بشيء من الرزانة والإشفاق والحياء لا حد له، ومن ذلك الوقت عرف لنفسه إرادة قوية،.
ومن ذلك الوقت حرم على نفسه ألوانا من الطعام لم تبح له إلا بعد أن جاوز الخامسة والعشرين. حرم على نفسه الحساء والأرز، وكل الألوان التي تؤكل بالملاعق، لأنه كان يعرف أنه لا يحسن اصطناع الملعقة.
هذه الحادثة أعانته على أن يفهم حقًا ما يتحدث به الرواة عن أبى العلاء، من أنه أكل ذات يوما دبسًا، فسقط بعضه على صدره وهو لا يدرى، فلما خرج إلى الدرس قال له بعض تلاميذه: «ياسيدي أكلت دبسا، فأسرع بيده إلى صدره وقال: نعم قاتل الله الشره، ثم حرم الدبس على نفسه طوال الحياة».
وأعانت هذه الحادثة طه حسين، على أن يفهم طورًا من أطوار أبى العلاء حق الفهم، ذلك أن أبا العلاء كان يتستر فى أكله حتى على خادمه، فقد كان يأكل في نفق تحت الأرض، وكان يأمر خادمه أن يعد له طعامه في هذا النفق ثم يخرج، ويخلو هو إلى طعامه فيأخذ منه ما يشتهى، وقد زعموا أن تلاميذه تذاكروا مرة بطيخ حلب وجودته، فتكلف أبو العلاء وأرسل إلى حلب من اشترى لهم منه شيئًا، فأكلوا واحتفظ الخادم لسيده بشيء من البطيخ وضعه في النفق، وكأنه لم يضعه فى المكان الذي تعود أن يضع فيه طعام الشيخ، وكره الشيخ أن يسأل عن حظه من البطيخ، فلبث البطيخ في مكانه حتى فسد ولم يذقه الشيخ.
وكعادة أهل القرى، دخل الصغير كٌتاب القرية حتى حفظ القرآن ولا يعرف كيف بدأه وكيف أعاده، لكنه يذكر أوقاتًا كان يذهب فيها إلى الكتاب محمولًا على كتف أحد أخويه، لأن الكتاب كان بعيدًا، ولأنه كان أضعف من أن يقطع ماشيا تلك المسافة.
أصبح الصبي شيخًا وإن لم يتجاوز التاسعة لأنه حفظ القرآن، ومن حفظ القرآن فهو شيخ مهما تكن سنه، هكذا دعاه أبوه شيخًا، ودعته أمه شيخًا، وتعود سيدنا أن يدعوه شيخًا أمام أبويه، أو حين يرضى عنه، أو حين يريد أن يسترضاه لأمر من الأمور، أما فيما عدا ذلك فقد كان يدعوه باسمه، وربما دعاه بالواد.
وقد أعجبه هذا اللفظ فى أول الأمر، ولكنه كان ينتظر شيئًا آخر من مظاهر المكافأة والتشجيع، كان ينتظر أن يكون شيخًا حقًا، فيتخذ العمة ويلبس الجبة والقفطان، وكان من العسير إقناعه بأنه أصغر من أن يحمل العمة ومن أن يدخل في القفطان وكيف السبيل إلى إقناعه بذلك وهو شيخ قد حفظ القرآن! وكيف يكون الصغير شيخًا! وكيف يكون من حفظ القرآن صغيرًا! هو إذًا مظلوم... وأى ظلم أشد من أن يحال بينه وبين حقه في العمة والجبة والقفطان!.
وما هي إلا أيام حتى سئم لقب الشيخ، وكره أن يدعى به، وأحس أن الحياة مملوءة بالظلم والكذب، وأن الإنسان يظلمه حتى أبوه، وأن الأبوة والأمومة لا تعصم الأب والأم من الكذب.
أهمل شيخ الكتاب، الصبي طه وانشغل بغيره، بعد أن أتم حفظ القرآن، واستراح هو لهذا الإهمال فبات يقضي طيلة اليوم في الكُتاب باللعب وينتظر عودة شقيقه من القاهرة في الإجازة الصيفية، ليأخذه معه ليكمل تعليمه في الأزهر، فنسي الشيخ طه ما حفظه وعاقبه شيخ الكُتاب بأن أسند إعادة طفظه إلى العريف "شرطي الكتاب"، وسحب منه مؤقتًا لقب شيخ وهكذا فعل به والديه حتى عاد إليه رشده وحفظ ما كان قد نسيه، وتأهب لأن يذهب مع شقيقه إلى القاهرة، إلا أنه رفض وقال لأبيه إن "طه" لا يزال صغيرًا
وأشار عليه بأن يبقى حيث هو سنة أخرى، وأن يقضى هذه السنة في الاستعداد للأزهر، ودفع إليه بكتابين ليحفظ من أحدهما جملا ويحفظ الآخر كاملًا، فأما الكتاب الذي لم يكن بد من حفظه كله فألفية ابن مالك، وأما الكتاب الآخر فكان "مجموع المتون".
وأوصى الأزهرى قبل سفره بأن يبدأ "طه" بحفظ الألفية، حتى إذا فرغ منها وأتقنها، حفظ من الكتاب الآخر أشياء غريبة، بعضها يسمى الجوهرة، وبعضها يسمى الخريدة، وبعضها يسمى السراجية، وبعضها يسمى الرحبية، وبعضها يسمى لامية الأفعال، وكانت هذه الأسماء تقع من نفس الصبي مواقع تيه وإعجاب، لأنه لا يفهم لها معنى، ولأنه يقدر أنها تدل على العلم، ولأنه يعلم أن أخاه الأزهرى قد حفظها وفهمها فأصبح عالمًا وظفر بهذه المكانة الممتازة في نفس أبويه وإخوته وأهل القرية جميعًا، ألم يكونوا جميعًا يتحدثون بعودته قبل أن يعود بشهر، حتى إذا جاء أقبلوا إليه فرحين مبتهجين متلطفين؟، ألم يكن الشيخ يشرب كلامه شربًا، ويعيده على الناس في إعجاب وفخار؟.. ألم يكن أهل القرية يتوسلون إليه أن يقرأ لهم درسًا في التوحيد أو الفقه؟ وماذا عسى أن يكون التوحيد؟ وماذا عسى أن يكون الفقه؟ ثم ألم يكن الشيخ يتوسل إليه، ملحا مستعطفًا مسرفًا في الوعد، باذلًا ما استطاع وما لم يستطع من الأماني، ليلقى على الناس خطبة الجمعة؟ ثم هذا اليوم المشهود يوم مولد النبي.. ماذا لقى الأزهرى من إكرام وحفاوة، كانوا قد اشتروا له قفطانًا جديدًا، وجبة جديدة وطربوشًا جديدًا، ومركوبًا، جديدًا، وكانوا يتحدثون بهذا اليوم وما سيكون منه قبل أن يظلهم بأيام، حتى إذا أقبل هذا اليوم وانتصف، أسرعت الأسرة إلى طعامها فلم تصب منه إلا قليلًا، ولبس الفتى الأزهرى ثيابه الجديدة، واتخذ في هذا اليوم عمامة خضراء، وألقى على كتفيه شالًا من الكشمير، وأمه تدعو وتتلو التعاويذ، وأبوه يخرج مضطربًا، حتى إذا تم الفتى من زيه وهيئته ما كان يريد، خرج فإذا فرس ينتظره بالباب، وإذا رجال يحملونه فيضعونه على السرج، وإذا قوم يسعون بين يديه، وآخرون يمشون من خلفه، وإذا البنادق تطلق في الفضاء، وإذا النساء يزغردن من كل ناحية، وإذا الجو يتأرج بعرف البخور، وإذا الأصوات ترتفع متغنية بمدح النبي، وإذا هذا الحفل كله يتحرك في بطء وكأنما تتحرك معه الأرض وما عليها من دور، كل ذلك لأن هذا الفتى الأزهرى قد أصبح خليفة، فهو يطاف به في المدينة وما حولها من القرى في هذا المهرجان الباهر، وما باله اتخذ خليفة دون غيره من الشبان؟ لأنه أزهرى قد قرأ العلم وحفظ الألفية والجوهرة.
تلك المشاهد جعلت "طه" يُحادث نفسه: «فلم لا أنتهج نهج الأزهري، وأقرأ من العلم ما قرأ أخي، وأحفظ الألفية والجوهرة والخريدة؟.
تذكر "طه" تلك المشاهد ليلًا وذهب إلى الكتاب، وفي الصباح ذهب إلى "الكُتاب" فرحًا مختالًا وفي يده نسخة من (الألفية،! لقد رفعته هذه النسخة درجات، فأصبح سيدنا، لا يستطيع أن يشرف على حفظه للألفية، ولا أن يقرئه إياها، بل ضاق الكتاب كله بالألفية، وكلف الصبي أن يذهب فى كل يوم إلى المحكمة الشرعية؛ ليقرأ على القاضي ما يريد أن يحفظه من الألفية، والقاضي عالم من علماء الأزهر، وهو قاضي الشرع، بقاف ضخمة وراء مفخمة، وهو في المحكمة لا في الكتاب، وهو يجلس على دكة مرتفعة، قد وضعت عليها الطنافس والوسائد، لا تقاس إليها دكة سيدنا، وليس حولها نعال مرقعة على بابه رجلان يقومان مقام الحاجب، ويسميهما الناس هذا الاسم البديع، الذى لم يكن يخلو من هيبة: (الرسل)
كان يجب على الصبى أن يذهب إلى المحكمة في كل صباح، فيقرأ على القاضى بابا من أبواب الألفية، وكم كان القاضي يحسن القراءة! كان يملأ فمه بالقاف والراء! ويتهدج بقول ابن مالك.
جرت في النهر مياه كثيرة بعضها عذب وبعضها أجاج وتتابعت الليالي على الشيخ طه وهو يحلم بعمامة الأزهري وما بين نجاح وإخفاق تأهل للذهاب إلى القاهرة لإتمام تعليمه وظل ينتظر الفرصة، حتى جاءه والده وقال له: يا طه ستذهب إلى القاهرة مع أخيك، وستصبح مجاورًا، وستجتهد في طلب العلم، وأنا أرجو أن أعيش حتى أرى أخاك قاضيا وأراك من علماء الأزهر، وقد جلست إلى أحد أعمدته، ومن حولك حلقة واسعة، قال الشيخ ذلك لابنه آخر النهار في يوم من خريف سنة ۱۹۰۲، وسمع الصبي هذا الكلام فلم يصدق ولم يكذب، ولكنه آثر أن ينتظر تصديق الأيام أو تكذيبها له، فكثيرًا ما قال له أبوه مثل هذا الكلام، وكثيرا ما وعده أخوه الأزهرى مثل هذا الوعد، ثم سافر الأزهرى دون أن يصطحبه معه، ولم يفهم "طه" لماذا صدق وعد أبيه في هذه السنة، فقد أخبر الصبي ذات يوم أنه مسافر بعد أيام، وأقبل يوم الخميس، فإذا الصبى يرى نفسه يتأهب للسفر حقًا، وإذا هو يرى نفسه في المحطة ولما تشرق الشمس، وهو يرى نفسه جالسًا القرفصاء منكس الرأس كتيبا محزونا، ويسمع أكبر إخوته ينهره في لطف
قائلا له: لا تنكس رأسك هكذا، ولا تأخذ هذا الوجه الحزين فتحزن أخاك.. ويسمع أباه يشجعه في لطف قائلا: ماذا يحزنك؟ ألست رجلًا؟ ألست قادرا على أن تفارق أمك؟ أم أنت تريد أن تلعب؟ ألم يكفك هذا اللعب الطويل؟ انطلق القطار ووصل "طه" إلى القاهرة"، ولقد كانت فترة إقامته فى الأزهر فترة دقيقة، وتلك حكاية أخرى سيأتي وقت ذكرها.. لكننا سنوقف هنا القطار مع الشيخ طه، ثم سنعاود لاحقًا أسباب تحوله من حب العمامة إلى انتقادها وتركه لأروقة الأزهر وذهابه إلى جامعة القاهرة.
0 تعليق