احتفاءٌ بعلَم من أعلام الدّرس الفلسفي، والثقافة في شمولِ مفهومِها، والبحث، والتعليم بالمغرب، هو محمد مصطفى القباج، نظمه المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية، أول أمس السبت بالعاصمة الرباط، بحضور أسماء أكاديمية بارزة، قاربت مسار الأكاديميِّ الذي كان مديرا علميا لأكاديمية المملكة المغربية، ودرّس الفلسفة بالجامعة والمدرسة المولوية.
رائد الحركة التنويرية
الأكاديمية نجاة المريني تحدّثت عن “المعلّم” الذي هو “رائد من رواد الحركة التنويرية، في التأليف والتصنيف على مستويات عديدة، وأنشطة علمية. (…) بمسار مشرّف، متعدد مشاربِ العطاء، وموارد الانشغال”؛ فقد “غذّى القراء وأنعش فكرهم بما حبّره في الفكر والثقافة، والتربية، والتعليم، وقضايا المسرح ودواليبه، وغيرها من الموضوعات التي شغلته بيسر، وهدوء، وأناة”.
وتابعت: “لقد غاص بمعرفة شاملة، وأساليب منطقية، في قضايا متعددة، ذات دلالات وأبعاد، لها خصوصياتها في كتاباته”، وهو “رجل تربية وتعليم بامتياز، مارس التعليم بالمدرسة المغربية بسلا والرباط والقنيطرة، والجامعة المغربية، وكلية علوم التربية، والمدرسة المولوية، وهو ذو تجربة كبيرة في التعليم والتدريس، وكفاءة عالية في التربية والتعليم، ومارس التعليم بحب وعشق، نجح في مهمته التربوية، وكتب من بين ما كتبه عن التربية، والأمية، والتلميذ والمتعلّم، والتربية والمجتمع”.
واهتمت المريني خاصة بسلسلة “عمّ يتحدثون”، التي جمع فيها الكاتب متفرّق ما نشره من شهادات وحوارات ومقالات وقراءات، قائلة: “اهتمامه بهذا النوع من الكتابة نقطة مهمة أدرجتها قصدا، لنعرف لِمَ التهميش لبعض الفعاليات الفكرية والتربوية والثقافية ببلدنا، من طرف الوزارة المسؤولة، والمؤسسات، والجمعيات”.
وزادت: “في سلسلته اهتمامٌ بمبدعينَ وشعراء وكتّاب، منهم مهمشون لاختيارهم مواضيع (…) وقدم شهادات في حق أعلام الفكر المغربي المعاصر، تقديرا لها وتنويها بعطاءاتها”، رغم “سياسة التهميش التي نعيشها من أطراف رسمية، ومؤسسات ثقافية كثيرة”.
نجاة المريني ذكرت أيضا أن القباج “باحث أنيق لغة وفكرا، وفي (عم يتحدثون) عرض علينا التعرف عليه والاحتكاك بمدوناته، وهو يبحث ويناقش ويصنّف، في تنوع الموضوعات وتعددها، يقدم عصارة الفكر، ويتحدث عن المفكرين بطريقته الخاصة”، علما أنه “رجل خلوق، تشرق أساريره محبة، بتواضع مع المخاطب وحسن استقبال، وإحسان للاستماع للآخر”، كما أن له “أفضالا، في تحويل مسؤولية الكتابة والتحبير، وملء الثقوبِ والفراغات في مجتمع يسعى للنهوض بثقافته وبناء حضارته”.
هويّة وانفتاح وتصحيح
خالد الصمدي، الأكاديمي وكاتب الدولة السابق المكلف بالتعليم العالي والبحث العلمي، قال، من جهته، إن هذا التكريم يأتي في إطار “حرص على ترسيخ ثقافة الاعتراف، وربط الماضي بالحاضر، وتعريف الأجيال بأعلام ومؤسسات الفكر التربوي المغربي”؛ ومنهم محمد مصطفى القباج، الذي هو “جزء لا يتجزأ من ذاكرة المدرسة المغربية”.
وزاد: “لقد تشبع بالهوية منذ وقت مبكر، في دراسته على الفقيه في “المسيد” الكُتّاب القرآني، ببيئة فاسية ثم مراكشية (…) ودرس في المدرسة الوطنية الأصيلة، ورفض التسجيل في مدارس أبناء الأعيان”، وهو ذو “شخصية متكاملة بين الأبعاد الفكرية والفلسفية، والحس النقدي، وقبول الاختلاف والأفكار، والثقافة الأصيلة المتينة للهوية والانتماء”، مع انفتاح مبكر على “الدرس الفلسفي واللغات”.
وفي مسار القباج، التقى مبكرا في “جامع القرويين” بأعلام من قبيل عبد القادر زمامة، ومحمد الفاسي، ثم التقى لاحقا مع الفيلسوف محمد عزيز الحبابي، “أستاذه وشيخه، وهو علامة فارقة في اشتغاله بين التعليم الأصيل إلى الفلسفة، قبل الانتقال إلى الاشتغال في ثانوية النهضة التي كان يديرها أبو بكر القادري بسلا، والمدرسة العليا للأساتذة الأولى بالمغرب، فالتكوينِ الجامعي المزدوج في العلوم السياسية والفلسفة، قبل تحضير الدكتوراه ببلجيكا”.
وذكر الصمدي أن القباج قد “اشتغل بمعالجة الأعطاب الفكرية التي ظهرت بعد هزيمة 1967، وتيقّن بأن الخلل في المنظومة الفكرية على وجه التحديد”، كما “اشتغل بقضايا حقوق الإنسان بمجلس حقوق الإنسان بجنيف”، و”كان مسؤولا عن رسم استراتيجية الإصلاح التعليمي والثقافي، في مسؤوليات استشارية”، ودرّس ديداكتيك الفلسفة بكلية علوم التربية، ودرّس الفلسفة في المدرسة المولوية، وكان من بين تلامذتها الملك محمد السادس.
محمد مصطفى القباج انشغل أيضا “بتطوير الثقافة والإصلاح الثقافي بمنظمات وطنية وإقليمية عربية”، علما أن “المنظر لا يمكنه الاكتفاء بالثقافة النظرية؛ بل إذا زاوج بالإضافة إلى ذلك تتبع الإشكالات في واقع الممارسة، يكون إنتاجه الفكري والثقافي نوعا من الانصهار بين النظرية والتطبيق”، ولذا كتابات المُحتفى به “غاية في الأهمية في رسم الاستراتيجيات التربوية والثقافية، في المغرب خصوصا، والعالم الإسلامي عموما”.
ومن بين ما نبه إليه المتحدث ما دافع عليه القباج في مساره من خطورة “التشظي الثقافي والهوياتي القائم على العصبيات اللغوية والعرقية والترابية، الذي عانى منه العالم العربي والإسلامي للأسف”، وكانت له “أفكار متنورة لتجسير الهوية الثقافية واللغوية والترابية، كعامل للقوة لا عامل للعصبية والتشظي”. ونبه أيضا “إلى صراع الثقافات والأديان، وآليات بناء ثقافة الحوار والتعايش والتسامح، وضعف المنظومات التربوية بالعالم الإسلامي، مقترحا مسارات مهمة جدا للإصلاح”.
القباج لاحظ في مسار مسؤولياته وأبحاثه “ضعف التربية على الفكر النقدي، والحوار، والتربية على المواطنة التي يسميها المواطنة المتفاعلة”، ونبه على خطورة “تهميش مكانة اللغة العربية والاهتمام بها كلغة مدرَّسة ولغة تدريس”، ومن مداخل الإصلاح التي اقترحها مغربيا وإقليميا “مدخل الاعتزاز بالحضارة الإسلامية والتعريف بها”، و”مدخل تصحيح المفاهيم، لأنه يعتقد أن تشوه المفاهيم ساهم بشكل كبير جدا في التشظي الفكري والثقافي وخلق الصراعات”، واقترح “مفاهيم جديدة مثل التفاعل الإيجابي، والنضج الإِبستيمي، والثقافة العلمية، بدلالات عميقة جدا في مسار الإصلاح الفكري والثقافي”.
القباج اقترح على الباحثين أيضا، وفق الشهادة نفسها، “مدخل بناء منظومة القيم العالمية، التسامح والتعايش والحرية والانفتاح، بمنطق متوازن، لا استلاب فيه، ولا انزياح، ولا جمود وتصلب، بل تفاعلٌ إيجابي”، و”اقترح علينا تنمية مهارات الحوار وتدبير الاختلاف: المدخل الوحيد لخلق منظومة القيم التي تحدث عنها، ثم: مدخل التربية على المواطنة وبناء المشترك الإنساني”، و”مدخل تطوير النظريات التربوية، وخاصة في الطفولة ومحاربة الأمية”؛ لأن “الإصلاح يبتدئ من القضايا الأساس، وتطوير المناهج التعليمية، وانفتاح المدرسة على العلوم واللغات”.
أصالةٌ وتحرّر
الأكاديمي مصطفى الزباخ، مقرر أكاديمية المملكة المغربية، قال إن مصطفى القباج، الذي عرفه نصف قرن، “جمعٌ في صيغة المفرد” ذو “عطاءات متنوعة ومتشعبة”، و”لا يزال بحماس الشباب وإرادة الحياة ومسؤولية المثقف، رغم تكاليف ما بعد سنوات الثمانين في عمره”، حيث يظلّ “نهرا متدفق العطاء، علما وحماسة”.
وأضاف: “القباج ذو قيم شامخة، بعلمه، ووطنيته، وعروبته، وأخلاقيته، رسَم تمثالا له عندي، ومشاعر جارفة”، قبل أن يردف قائلا: “لقد سكَنْتَني أخي بتواضعك، ونبل وإخلاص وطنيتك، وإنسانيتك”.
وشهد الزباخ على القيم الأخلاقية للقباج التي “صانت جهاز مناعته من القابلية للتغريب، والقابلية الاستعمار، فظلّ مؤمنا بالسماد الأخلاقي، في مقابل سماد أسلحة الصراع والدمار. مع منتج فكري وفلسفي (…) متحرر من الغاية المادية، والانتماءات السياسية الضيقة، والولاءات الأيديولوجية المهددة للذاتية الثقافية والهوية الحضارية، والغارقة في المصالح والملذات الشخصية”، بل “ورغم العواصف الإيديولوجية التي هبّت واقتلعت جذور مثقفينَ (…) بقي محافظا على هوية ثقافية أصيلة، دون انغلاق، ولا استلاب، مع انفتاح على مستجدات العصر”.
وواصل الشاهد: “لقد اشمَأزّ القباج من صراعات القيادات السياسية على المناصب والامتيازات التي شغلتهم عن الاهتمام بالأفكار والتوجهات الثقافية العامة (…) ورأى أن العامل العربي العروبي المصلحي هو الذي فرّق وحدة العرب، وأسهم في تعقيد القضية الفلسطينية (…) ومن هنا كانت السياسة لديه في أجلى مقاصدها تمتح من السياسة الشرعية في الإسلام التي تقرّب الناس إلى الصلاح، والصدق، والنزاهة، وتبعدهم عن الفساد. بعيدا عن السياسة الميكيافيلية التي تبرر بها الغاية الوسيلة”.
ومن بين ما تحدث عنه الأكاديمي أن المكرّم “مدافع عن الهوية الوطنية متعددة الأبعاد، بعيدا عن رؤية الهوية جامدة اسمنتية، بل يتصورُها نهرا جاريا، تتكامل أصالته مع التطور والانفتاح، بعيدا عن التعصب. بوعي شامل، يحفظ به الذاكرة الجماعية، ويهز شباك الهوية المنغلقة سواء في ماضيها أو حداثتها”.
وشرح الزباخ الفكرة: “الهوية المغربية بالنسبة للقباج غير ثابتة، ويحكمها قانون التطور الذي يحكم الكائنات الحية، الذي يتعارض عنده مع نظرية النشوء الداروينية ولا يتعارض مع فكرة الخلقَوية الإسلامية. هوية الإنسان المغربية متغذية بقيم الإسلام السمحة، الحاثة على التعاون، باحترام الآخر، ومعتقداته، وألوانه، وأعرافِه، وتتميز بتنوعها وأخلاق العيش الاجتماعي المشترك، والرفض للتعصب والتطرف”.
القباج داعيةٌ “للتفاهم، والسلم، والتحالف”، وهي “أخلاق سامية”، خبرها فيه المتحدث؛ ولذا كان “انشغاله بالحرية عند محمد عزيز الحبابي، لا لترف فكري، بل لأنه كان ممن حرروا أنفسهم من عبودية المناصب والغايات التكسبية، وأعلنوا الحرب على الأدعياء وبائعي ضمائرهم وهوياتهم، وانتصروا على الذوات المنتفخة بالفساد والرشوة والظلم”، فقد “وقف القباج حذرا أمام التلوث الثقافي الوافد من أمراض كل الجهات، ثائرا في وجه العنصرية والنظريات الفكرية الماسخة، وقائلا للمتصفين بها: لكل أخلاقكم ولنا أخلاقنا”.
0 تعليق