من مؤتمر الجزيرة الخضراء إلى النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية..
لطالما شكّل الموقع الجغرافي الإستراتيجي عاملاً حاسمًا في تحديد مصير الدول.
بالنسبة للمغرب امتزجت الجغرافيا بالتاريخ، ليصبح موقعه الجغرافي بوابة إستراتيجية بين أوروبا وإفريقيا، تحيطه مياه البحر الأبيض المتوسط من الشمال والمحيط الأطلسي من الغرب؛ هذا الامتياز الجغرافي جعله هدفًا دائمًا للأطماع الدولية والإقليمية على مر العصور، حيث حمل معه الفرص الاقتصادية الكبرى كما التحديات الجسيمة.
مما لا شك فيه أن الموقع الجغرافي الإستراتيجي يلعب دورًا حاسمًا في احتمال التعرض للأطماع الخارجية؛ فالإمبراطوريات التي تسيطر على ممرات بحرية أو ممرات برية رئيسية (مثل المضائق، القنوات، والطرق التجارية) تمتلك ميزة إستراتيجية كبرى.
هذه الممرات تشكل نقاط تحكم في حركة التجارة وحركة حاملات الطائرات العسكرية، ما يمنحها نفوذًا عالميًا.
الموقع الجغرافي الإستراتيجي يجعل من القوى العظمى قاعدة انطلاق للهجمات العسكرية ضد الأعداء.
إن الدول التي تتمتع بمواقع ذات أهمية إستراتيجية كبرى تكون باستمرار هدفًا للطموحات العسكرية للقوى العظمى، ما يدفع تلك القوى إلى تنافس المحموم على النفوذ فيها.
كان الموقع الجغرافي الإستراتيجي دائمًا هدفًا لأطماع القوى العظمى عبر التاريخ.
السيطرة على المواقع ذات الأهمية الجغرافية كانت تُعتبر مفتاحًا لبناء الإمبراطوريات وضمان استدامة هيمنتها.
الموقع الجغرافي للمغرب كان ومازال سلاحًا ذا حدين، إذ يمكن أن يكون سببًا للقوة كما قد يكون سببًا لاستهداف الدول ذات المواقع الإستراتيجية الحيوية من القوى الكبرى.
من مؤتمر الجزيرة الخضراء إلى الاستعمار المزدوج
في أوائل القرن العشرين كان المغرب في قلب التنافس الاستعماري بين القوى الأوروبية. وقد بلغ هذا الصراع ذروته في مؤتمر الجزيرة الخضراء (1906) الذي عقد لتحديد مصير المغرب. كان المؤتمر بمثابة بداية لتقسيم البلد إلى مناطق نفوذ استعمارية، حيث مُنحت فرنسا وإسبانيا السيطرة على أراضٍ مغربية واسعة، فيما خصصت طنجة لتكون منطقة دولية.
التوتر بين فرنسا وألمانيا بلغ ذروته في الأزمة المغربية الأولى (1905-1906) عندما زار القيصر الألماني مدينة طنجة وأعلن دعمه لاستقلال المغرب، ما أثار غضب فرنسا وأدى إلى انعقاد مؤتمر الجزيرة الخضراء.
اعتبرت فرنسا المغرب منطقة نفوذ طبيعي نظرًا لقربه الجغرافي من الجزائر، التي كانت تحت الاستعمار الفرنسي منذ 1830.
سعت فرنسا إلى فرض سيطرتها على المغرب لاستكمال مشروعها الاستعماري في شمال إفريقيا.
وفي المقابل فإن ألمانيا كانت قوة صاعدة في أوروبا وتهدف إلى كسر الهيمنة الفرنسية والبريطانية على المستعمرات. أرادت ألمانيا ضمان الوصول إلى الأسواق المغربية واستخدام موقع المغرب الإستراتيجي كمنطقة نفوذ سياسي واقتصادي.
كان الهدف المعلن هو حل النزاع حول مستقبل المغرب، لكنه في الواقع كان خطوة لتقاسم نفوذ موقع إستراتيجي هام بين القوى الأوروبية.
تم الاتفاق على منح فرنسا وإسبانيا السيطرة على المغرب، فيما تم إنشاء منطقة دولية في طنجة.
فرنسا نالت النفوذ الرئيسي في المغرب، بينما حصلت إسبانيا على السيطرة على المناطق الشمالية والجنوبية الصحراوية.
أدى هذا الاتفاق إلى فرض الاستعمار المزدوج على المغرب، إذ كان الدولة الوحيدة التي واجهت احتلالًا من قوتين استعماريتين في آن واحد.
هذا التقسيم ترك آثارًا عميقة في البنية الاجتماعية والاقتصادية للمغرب، حيث تعرضت الموارد الطبيعية للاستنزاف، وتفككت البنية التقليدية للمجتمع المغربي. لكن في الوقت ذاته ولّد هذا الوضع مقاومة وطنية ناضلت من أجل التحرير واستعادة السيادة.
وجه المغاربة كافة مجهوداتهم للتحرر من الاستعمار المزدوج، وعرف شمال المملكة المغربية حربا ضروسا انتهت بقصف كيماوي على المقاومين الريفيين.
الصحراء المغربية: امتداد للنضال الوطني ضد مشاريع التقسيم
مع حصول المغرب على استقلاله في منتصف القرن العشرين بدأ استرداد أراضيه تدريجيًا من السيطرة الإسبانية.
شكلت المسيرة الخضراء حدثا تاريخيا بارزا في 6 نونبر 1975، إذ نظم المغرب مسيرة سلمية لاسترجاع أقاليمه الجنوبية، كانت تعبيرا عن تلاحم المغاربة في الدفاع عن سيادتهم.
ظلت قضية الصحراء المغربية الشغل الشاغل للمملكة، إذ تدخلت الجزائر حديثة الاستقلال لدعم حركة انفصالية تهدف إلى إنشاء كيان مستقل في جنوب المغرب.
الجزائر دعمت إنشاء جبهة البوليساريو عام 1973 وسلحتها من أجل السيطرة على الصحراء المغربية، مستغلة دعم الكتلة الشرقية خلال الحرب الباردة.
والهدف كان إنشاء دولة انفصالية تسمح للجزائر بالوصول إلى المحيط الأطلسي من خلال أراضيها.
دعم الجزائر لجبهة البوليساريو يكشف عن أطماع غير معلنة تتعلق بالسعي إلى الحصول على منفذ للمحيط الأطلسي.
امتلاك منفذ على المحيط الأطلسي كان سيوفر للجزائر أهمية موقع إستراتيجي، فضلا عن منفذ بحري لتصدير مواردها الطبيعية وتحقيق تفوق اقتصادي وجيوسياسي.
يُعزز التوسع نحو المحيط الأطلسي نفوذ الجزائر إقليميًا، خصوصًا في مواجهة المغرب، الذي يملك تاريخيًا علاقات قوية مع الدول الغربية بفضل موقعه الإستراتيجي.
خلال فترة الحرب الباردة تحالفت الجزائر مع الاتحاد السوفييتي ودعمت حركة البوليساريو الانفصالية.
وشكلت قضية الصحراء المغربية صراعًا مباشرًا بين البلدين منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ تعتبر الجزائر وجود المغرب في الصحراء عائقًا أمام تحقيق أهدافها الإستراتيجية التوسعية.
يُبرز تاريخ الجزائر الحديث أن دعمها البوليساريو ليس فقط مسألة أيديولوجية، بل هو جزء من إستراتيجية طويلة الأمد تسعى إلى تحقيق نفوذ جغرافي وسياسي في المنطقة، ولو على حساب الدول المجاورة مثل المغرب.
استطاع المغرب من خلال دبلوماسيته النشيطة المتوازنة والحازمة إحراز تقدم كبير في الملف، إذ أقنع العديد من الدول بسحب اعترافها بالكيان الانفصالي الوهمي.
وشهد العقدان الأخيران اعتراف قوى دولية بمغربية الصحراء، بما في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا. هذا الاعتراف يمثل تحولًا إستراتيجيًا عزز موقف المغرب على الساحة الدولية، وجعل من الصحراء المغربية عنصرًا ثابتًا في سياسته السيادية.
دروس التاريخ: التحالفات المتوازنة
التاريخ المغربي يعكس قدرة المملكة على التكيف مع المتغيرات الدولية.
تنويع الشركاء الإستراتيجيين أصبح أحد أعمدة السياسة الخارجية المغربية.
وعلاقات المغرب المتوازنة مع الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوروبي، الصين، والدول الإفريقية والخليجية أثبتت فعاليتها، إذ جعلت المملكة لاعبًا رئيسيًا في شمال إفريقيا.
وعلى النقيض يستمر النظام الجزائري في تبني سياسات تجاوزها الزمن.
خطاب “الثورة الاشتراكية” ودعم الحركات الانفصالية مثل البوليساريو يُظهر عجزًا عن مواجهة التحديات الداخلية، من قبيل الفقر والبطالة.
بدلًا من استغلال ثرواتها الطبيعية في تنمية الشعب الجزائري تبدد الجزائر مواردها في معارك سياسية عقيمة، ما يؤدي إلى تفاقم العزلة الإقليمية.
اليوم أصبح المغرب شريكًا رئيسيًا للتحالفات الغربية، خصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية؛ كما أن استثماراته التنموية في إفريقيا جعلت منه نموذجًا يُحتذى به. هذه الإستراتيجية أكسبت المغرب احترامًا متزايدًا على المستوى الدولي، ووضعت الجزائر في موقف دفاعي غير قادر على مواكبة التطورات.
ورغم التقدم الكبير مازال المغرب يواجه تحديات، أبرزها الحفاظ على استقراره أمام المحاولات المستمرة لتقويض وحدته الترابية. في هذا السياق تتطلب المرحلة المقبلة:
1. تعزيز القدرات الدفاعية.
2. استثمار أكبر في المناطق الجنوبية.
3. الاستمرار في الدبلوماسية النشطة.
4. استغلال الموقع الجغرافي لتعزيز دوره كحلقة وصل اقتصادية بين إفريقيا وأوروبا.
المغرب.. وحدة العرش والشعب قوة لا تقهر
من مؤتمر الجزيرة الخضراء إلى النزاع المفتعل حول الصحراء ظل المغرب دولة صامدة أمام سلسلة من التحديات التي شكلت اختبارًا حقيقيًا لسيادته وهويته.
بفضل حكمة ملوكه العلويين، الذين قادوا البلاد برؤية إستراتيجية وشجاعة، والتفاف الشعب المغربي حول العرش، نجح المغرب في تحويل هذه التحديات إلى فرص عززت مكانته الإقليمية والدولية.
الشعب المغربي، بتاريخه العريق ونضاله المستمر، شكّل سدًا منيعًا أمام كل محاولات التقسيم والعدوان؛ فمن مقاومتهم الاستعمار الفرنسي والإسباني، التي توّجتها ملحمة حرب الريف وتحرير المناطق المستعمرة، إلى تصديهم للغزوات الخارجية كمعركة وادي المخازن ضد البرتغاليين، ومعركة وادي اللبن ضد الأطماع العثمانية، وصولاً إلى التصدي للعدوان الجزائري في حرب الرمال، أثبت المغاربة على مر العصور قدرتهم على حماية وطنهم ووحدته.
عبر كل هذه المحطات، كان العرش العلوي رمزًا لوحدة المغاربة ومرجعًا أساسيًا لتلاحمهم.
لقد أظهرت الأمة المغربية عبر تاريخها أن سر قوتها يكمن في الالتفاف بين القيادة الرشيدة والشعب الصامد، ما مكنها من مواجهة كل الأزمات والانطلاق نحو بناء مستقبل أكثر إشراقًا.
ومع التحولات الجيوسياسية الراهنة يقف المغرب على أعتاب مرحلة جديدة من الازدهار والتأثير الإقليمي، مدعومًا بإرث تاريخي غني، ووحدة وطنية قوية. غير أن الحفاظ على هذا الزخم يتطلب يقظة مستمرة، قراءة متبصرة لدروس الماضي، واستعدادًا دائمًا لمواجهة تحديات المستقبل.
0 تعليق