إنّ السّرْدَ شبيهٌ بِمَا يُمْكِن أنْ تَأتِي بِه حِصَصُ النَّفْسانيِّين الذِين يبْحثونَ فِي ذَاكِرةِ الذَّاتِ العليلَةِ عن محْكيَّاتٍ تَقُودُ إِلى الكشْفِ عن سرِّ عِلَّتِها. إنّ المحكيَّ عندهم يُشكِّلُ حَالَةً مِن حالاتِ التطهُّرِ و”الاسْتشْفاءِ”، إنّه يُفجّرُ الطَّاقاتِ الانْفعاليَّةَ المحْجوزةَ من أجلِ التَّخَلُّصِ مِمَّا علِقَ بِالذَّات فِي ماضِيها وحاضرِها.
وَفْق مَقامَاتِ الاستِشْفاءِ هاتِه تُبنَى رِوايةُ “العيْنُ القديمةُ” لــ محمَّد الأشْعريّ. إنّها تَحكيِ قصّةَ رجلٍ اسمه مسْعود، وهو الوعيُّ المركزيُّ للرّوايةِ، مُوظَّفٌ كبيرٌ فِي وزارةِ الفِلاحةِ، اشتَغلَ في الرّباط ثم تنقّلَ بعد ذلك بَيْن باريس ورُومَا مُلْحَقًا بِبَعض المنظَّماتِ الدَّوْليَّة فِي مَيْدَان الفِلاحَةِ، ليَعودَ من جديدٍ إلى وزارتِهِ حيثُ سيُحالُ على التّقاعُدِ. يَسارِيٌّ بِدون إيديولوجْيَا ومناضلٌ بِدون برْنامجٍ سِياسيٍّ. إِنَّه مُنَاهِضٌ للعسْفِ ونَهْبِ الثَّرواتِ واسْتغْلالِ النُّفوذِ، ولكنّه يفعلُ ذلك وفق ما تَسْمَحُ به لوائحُ وزارتِه. يعيشُ جُزْءًا مِن حَياتِه الرَّاهنَةِ على أَحلَامِ ثَورَةِ الشَّبَابِ في فرنسا سنة 1968، وعلى خيباتِ الكثيرِ من الثّوراتِ المجهضَةِ في بلادِهِ. تَزوَّجَ فَرنسِيّةً أنجبَ منها أطفالاً ثم ماتتْ بعيداً عنه. يَعيشُ فِي الدَّار البيْضاء، المدينةُ التي لم يَعشَق غيرَها، على إِيقَاعٍ حَياتِيٍّ لا يَتَغيَّر أبدًا.
تلتقطُ الرّوايةُ شخصِيّةً شَبِيهَةً بالكثيرِ من شخْصيَّاتِ الواقعِ، ولكنّها لا تُحيلُ على “شَخْصٍ في التّاريخِ”، كما يُوهِمُ التأطيرُ الزمنيُّ المباشرُ بذلك، إنّها تقومُ بِبَلورَةِ صُورٍ نَمَطيَّةٍ تُنْتَزَعُ من زَمَنيَّةٍ مألوفَةٍ بأحْداثِها في السيّاسةِ والمجتمَعِ هي ما يُشكِّلُ مادّةَ التَّخْييلِ السّرديِّ وأُفُقَ حِبْكتِه. فالرّوايةُ تصِفُ الحدثَ التّاريخيَّ استناداً إلى ما يقولُه الوعيُ التّخييليُّ عنْه. إنّها تَفعلُ ذلك بغايةِ نَفْخِ الرّوحِ في الـمُتاحِ الثَّقافيِّ الموصُوفِ في النصِّ، ما يـُمْكنُ أنْ يَنمو خارجَ إِكْراهاتِ الواقعِ وحسبَ توجيهاتهِ فِي الوقْتِ ذَاتِه. إنّ البطلَ لا يَستَعيرُ أحداثَ حياتِه من التّاريخِ، ولكنَّ الروايةَ تَضعُها دائماً ضمنَ حُدود ما يُمكنُ أنْ يقعُ في التّاريخِ.
ذلك أنّ كلَّ مَا يَرِدُ على الذَّاكرةِ يَتِمُّ عَبْر عمليَّاتِ تَرشِيحٍ الغايَةُ منها انتقاءُ ما هو قابلٌ للسّردِ خارجَ “الأفقِ الواقعيِّ”. لِذَلك كَانَت الذِّكْرياتُ في الرّواية وَقائِعَ “حقيقيّةً”، ولكنّها كانت تَشكُو مِن خَصَاصٍ فِي التَّفاصيلِ. وهذا ما يَجعلُ السّردَ يأتي بالكثيرِ من “الكلامِ” من أجلِ بناءِ القليلِ مِن الأحْداثِ. فأغلبُ ما يَقعُ في الرّوايةِ هو إمّا تفصيلٌ لمعيشٍ يَوميٍّ بلا مردودٍ سرديٍّ، وإمّا “معاركُ” طاحنةٍ يخوضها مسعودٌ ضدّ أشْباحٍ لا تَدورُ رحَاها إلّا في ذهنِهِ.
لذلك تَكتَفي الرّوايةُ بتشْخيصِ “صراعٍ” شاملٍ تقومُ الذّاتِ في الغالبِ بتَصْريفِه في محكيّاتٍ تَتَّسِعُ للحبِّ والنّضالِ والإنجابِ والانتفاضاتِ الدّمويّةِ والإحْباطاتِ الّتي تلتْها. وهي محكيّاتٌ يَعيشُها مسعودُ و”نظِيرُه” بالتّزامُنِ أو التّعاقُبِ؛ يَتحوّل “الآخرُ” في السّردِ إلى كوّةٍ في الزّمنِ تُطِلُّ الذّاتُ من خلالها على نفسِها، وإلى نُقطةِ إرساءٍ في الفَضاءِ تَتمَثّلُ نفْسَها خارجَه. فلكَي يَحتَفِي مسعودٌ بِـ “انْتصاراتِه” لم يَكنْ ليَتَخلَّص مِن خطاياه، بل كان عليه إِعادَةَ صِياغتِها حسبَ مَا تَودُّه “أنا” خاصّةٌ تَبحَثُ لَهَا عن مَساحةٍ خَارِج مَا تَبلوَر ضمنَ الأطُر الثقافيّةِ المعتَادَةِ. فمَسعُود لا يَعيشُ، أو سبقَ أنْ عاشَ ولكنْ فِي حَيَاةٍ سَابِقةٍ هي وحدَها الحاضرةُ في الذّاكرةِ، إنّه يحيا ضِمنَ شكلٍ فارغٍ لِلْوجودِ يُجسّدُه طلاقٌ كلّيٌّ بينَه وبين مُحيطِه.
وهو ما يُبرِّرُ أو ربّما يُفسِّرُ هذا الانشطارَ في ذاتِ الفعلِ (مسعود و”الآخر”) والتّعدّدَ في ذاتِ السّردِ (التّنويعُ في الأصواتِ السّاردَةِ): إنَّ حَيَاةً وَاحِدةً لا تَكفِي، وَشخصِيةً وَاحِدةً لا تَستطِيعُ اِسْتيعابَ مُمكنَاتِ الذّاتِ ونَظيرِها، وصوتاً واحداً لم يكن كافياً للإحاطةِ بكلِّ امتداداتِ الزمنيّةِ في حَياةِ البطَلِ. فالسّردُ، وهو شرطُ الزمنيّةِ الإنسانيّةِ، هو الفاصِلُ والرّابطُ بين تاريخِ المؤرِّخين وبين الوَقائعِ التي تُبنى في التّخييلِ. يتعلّقُ الأمرُ باستِلالِ إنيَّةٍ خاصّة بذاتٍ تَبحثُ عن نَفسِها في حاضرِ السّردِ من عينيّةٍ هي حاصلُ ما تمَّ اكتِسابُه في الزّمنِ القَديمِ، زَمنِ السّياسةِ والمجتَمعِ. وكانَ ذلكَ يَقتَضِي التخلّصَ من كلّ ما علِقَ بالوعْيِ المركزيِّ من أحداثٍ، فالقصّةُ لن تَستَقيمَ إلا بالتّشكيكِ في تَفاصيلِها.
وتلك هي الميزَةُ الأساسُ في الرّوايةِ. إنّ السّردَ فيها يُوضعُ على لسانِ شَخصيّةٍ بصوْتَينِ مُنفصِلَينِ ومُتداخِلَينِ في الوقتِ ذاتِه، مسعود و”الآخر”. “أنا” باسمِها وسِجلِّها المدنيِّ الصّريحِ و “آخر” يَحضرُ في السّردِ باعتبارِه صوتاً لا يَحدُّه فضاءٌ أو زمانٌ. إنّه أسلوبٌ سرديٌّ مُركَّبٌ هو ما يـُمَكّنُ الذّاتَ من الانفِصالِ عن نَفسِها والعَودةِ إليها من خلالِ إسقاطِ نَظيرِها. لقد كان “الآخرُ” هو نَافِذةَ الذّاتِ على العالمِ، إنّه الصَّوْتُ النَّابعُ مِن دَاخلِها، وبذلك كان هو الكاشِفَ عن صِدْقِها أو زَيْفِها، أو كان الوسيلةَ التِي تُمَكّنها مِن وضعِ فَاصِلٍ بَينَها وبيْن التَّجْربةِ الموْصوفةِ، أو هو، بصيغةٍ أخرى، مصدرُ سَكينتِها: يقولُ مسعود عن الآخر:” إنّه يُريحُني، له عالمٌ غريبٌ، يَنتشلُني من نفسيِ، وله آراءٌ صغيرةٌ في أشياءِ الحياةِ اليوميّة”. وتقولُ عنه مُنى: “إنّه طاقةٌ سلبيّةٌ هيمَنتْ على حياتِه”. خصاصٌ في الجانبين يَجمَعُ بينهما: “مسعود يَعُدّ ذلك تَعويضاً عن أبٍ مفقودٍ، والآخرُ يَعُدّه تَعويضاً عن ابنٍ ضائعٍ”. وفي هذا وذاك يُعدُّ تقنيّةً من أجلِ الفصلِ بين مضمونِ الفِعلِ وبين الـحُكمِ عليه، بين ذاتيّةِ في القَولِ (صوت مسعود)، وبين موضوعيّةٍ في صَوتِ “الآخر”.
إنّه بذلك يُشكِّل الفَجوةَ الرّفيعةَ الفاصلةَ بين استِيهاماتِ الذّاتِ في قَولِها وبين حَقيقتِها في خِطابِ الآخرِ. إنّ السّردَ يَخلقُ من خلالِ ذلك حالةَ تَوازٍ وهميٍّ بين حياةٍ “فعليّةٍ”، وبين قِصّةٍ تَروي تَفاصيلَها في المعيشِ، “الأولى موضوعةٌ للعيْشِ، أمّا الثانيّةُ فموضوعةٌ للسّردِ”. ومن خلالِ هذا التّوازي يتأمّلُ مسعود ذاتَه، إنّه يَنفَصِلُ عن هُويَّتِه كمَا أُريدَتْ له، أو كما انساقَ إليها فِي شَرْطِ وُجودِه، وبيْن الآخرِ الذِي يُجسِّد مَا أرادَه ومَا كان يُريدُه أو مَا كان يَرفُضُه أو يودُّ تَجنُّبَه. لقد وضَعَه السّاردُ في مدينةٍ صاخبةٍ (الدار البيضاء) لكي يكونَ قادراً على استِثارةِ كلِّ طاقاتِ الصّخَبِ داخلَه. فإيقاعُ السّردِ في الرّوايةِ شبيهٌ بإيقاعِ الحياةِ فيها.
لا يُشكِّلُ النّظيرُ، استناداً إلى ذلك، حياةً موازيةً تُبنَى على هامشِ القصّةِ الأصليّةِ في النصِّ، بل هو بلورةٌ لـ”أنا” أخْرى مشتقةٌ من “الأنا” الأصليّةِ التي تُدارُ الصّراعاتُ على مِنوالِ رُؤيَتِها. فهُما معاً يُشكِّلانِ نقطةَ استِهْرابٍ تَقودُ كلُّ الأحْداثِ إليها. فاستناداً إليهِما تُسقِطُ الرّوايةُ لحظةً فارقةً في الزّمنِ السّرديِّ هي التي ستَتحكّمُ في طريقَةِ الخروجِ من الماضِي دونَ وعْدٍ بالدّخولِ إلى الحاضِرِ من جديدٍ. فالإحالةُ على التّقاعُدِ معادلٌ رمزيٌّ مزدوجٌ: إنّه يُشيرُ إلى زمنيّةٍ تَتأرجَحُ بين ما ولّى ولن يَعودَ أبداً، وبين ما يُـمْكِنُ أنْ يكونَ بدايةً لحياةٍ لا مردودَ لها. وفي الحالتينِ معاً، سيكونُ الفعلُ السرديُّ انعكاسيّاً لا يقودُ أبداً إلى بناءِ قِصّةٍ.
وهذا ما يُبيحُ للسّاردِ الاستعانةَ بكُلِّ أَشكَالِ التَّلَفُّظ بِمَا فِيهَا الانْتقالُ الدّائمُ مِن ضميرٍ إلى آخر ضِمنَ إيقاعٍ سَردِيٍّ ثابتٍ، وهو ما يُبيحُ له أيضاً تَعدِيلاً لِلْمقاماتِ الإبْلاغيَّةِ يتجسّدُ فِي الانْتقال مِن مَسعُود إِلى “الآخر” بالتّوافقِ أو التّناقضُ، وَفْق سجِلِّ قيميِّ واحدٍ. إِنَّه يَسْرُد مَا يُمكنُ أن يَلْحَقَ السَّرْدَ ذَاتَه، فهو يَلتَقِطُ محْكيَّاتٍ لا تُشكِّل حدَثًا بِالْمفْهومِ السّردِيِّ، بل هو مُحَاولَةٌ لِبناءِ قِصَّةٍ “مُنتهيَةٍ” في الذّاكرةِ. فلا وجودَ لمحكيٍّ في القصّةِ يُـمكنُ أنْ يغيِّرَ من مجرىَ الأحداثِ. فالرّوايةُ تَنتَهي كَما بدأتْ. إنّها تَكَادُ تَكُونُ حِوارًا بَيْن مَسعُودٍ و”الآخر”، أيْ بَيْن مَسعُودٍ ونفْسِه. ولَا تُشكِّل الشَّخْصيَّاتُ الأُخرى سِوى مسافةٍ للتّصادي: ما يَصِلُ الأوّلَ بالثّاني، وما يُعيدُ الذّاتَ إلى نفسِها. فالكونُ الروائيُّ لا يَستوْعبُ مسعوداً وحدَه، بل ينتشِرُ في تفاصيلِ حياةِ كلِّ الفاعلينَ في الرّوايةِ ويحوّلُهم إلى أشباحٍ أو نُسخٍ منهما.
وَهُو مَا يَعنِي أنّ السّردَ موجّهٌ إلى ضبطِ مُجملِ السيروراتِ التي يَجبُ أنْ تقودَ إلى التَخلُّصِ مِن كُلِّ مَا عَلِق بِالذّات فِي السِّياسةِ والوظيفةِ وَالإِرثِ الاجْتماعيِّ، لِكيْ تَستعِيدَ نَفسَها، أيْ تَبني ظلالَ قِصَّةٍ أخْرى هِي التَّعْبيرُ الأسْمى عن خُروجِ الذّاتِ من عَينِها، أو هو الإحالةُ على تَطهُّرٍ طَقْسيٍّ سيتحقّقُ في العُنفِ وفي الخطابِ الذي يَصفُه، كما سنَرى أسفلَه. إنّه لا يُصحِّحُ ما وقعَ أو يُفترضُ أنّه وقعَ، بل يَتعلّمُ كيف يَتحمّلُه مِن خِلَالِ تَقدِيم تَفسِيرٍ جديدٍ له. لا يَتَعلَّق الأمْر بِتصرُّفٍ حُرٍّ فِي وقائع التَّاريخِ، بل هو فقط مُحَاولَةٌ لاستِثارةِ مَا يُمْكِن أنْ يَكُون قد سَها المؤرِّخون عنْه، أو ما لم يقعْ في التّاريخِ قَطّ. فــ “العالمُ الممكِنُ” يُبنى في الرّوايةِ على ما يَفصِلُ ويربطُ بين ما يَعرفُه القارئُ عن الحدثِ التّاريخيِّ، وبين تَفاصيلِه كما تحضُرُ في صَوتِ السّاردِ أو أصواتِ الشخصيّات، كما يَقتَضي ذلك التخييلُ.
وهو ما يُعبِّرُ عنه الوصفُ الخاصُّ بالفَوضى والقتْلِ الجماعيِّ في انتفاضَةِ 1981، فقد وصَلَ “الغُلوُّ” بالفعلِ السّرديِّ إلى حدّ الحديثِ عن شُبهةِ اختلاطِ في الأنْسابِ بفعلِ عَمليّاتِ استِبدالٍ لرُضّعٍ في مُستشْفَى الولادَةِ في الدار البيضاء. وهو ما يُوحِي بميلادِ جيلٍ جديدٍ من قلبِ “حدثٍ” كبيرٍ في التّاريخِ يَعيشُ اليومَ هذا الجيلُ خارجَه (وهو الحدثُ الذي يُخصّصُ له السّاردُ محكيّاتِ بَطلَتُها مُنى ابنةُ مسعود الباحِثةُ عن حقيقَةِ ما جَرى يومَ ولادَتها فَتلتقي بشابين وُلِدا يوم الانتفاضة: تاشفين وأسامة).
إِنَّ الرّواية بذلك تَقُوم على لُعبَةٍ سَردِيّةٍ بَالِغةِ الدِّقَّةِ يُديرُ خُيوطَهَا صَوْتٌ سَردِيٌّ مُركَّبٌ وَمُبهَمٌ يَضُمّ دُفعَةً وَاحِدةً ” الأنَا ” و”الهُو” و”الأنْتَ”. وهي الصّيغَةُ السّرديّةُ التي تُمكِّنُ السّارٍدَ من استيعابِ مُمكناتِ الشّخصيّةِ وحالاتِها في ذاتِها وفي صَوتِها “الآخر”. إنّه الرّابطُ بين البوحِ الذاتيِّ وبين الضّميرِ الواصِفِ من خارجِه وبين الحوارِ الداخلِيِّ. إنّها صيغةٌ للفصْلِ بين الظّاهرِ “الخفيِّ” وبين الـمُضمَرِ” الصّريحِ” الذي يَخرجُ عن طوعِ “الأنا”، يتعلّقُ الأمرُ بالفصلِ بين وحداتٍ تأتي إلى عالمِ النصِّ من خارجِهِ (الأحداثُ التاريخيّةُ المشارِ إليها) وبين وَحداتٍ سرديّةٍ تُبنَى في التّخييلِ، ولكنّها ليست سوى تعليقٍ على وقائعَ لا يُمكنُ أنْ تُوجَد خارجَ التّاريخِ.
إِنَّ الفعْلَ مُزْدَوِجٌ دائمًا، فما يَقُوم بِه مَسعُود يُؤوِّلُه الآخر وَفْق صِيغة تُعدِّل أو تُضيفُ أو تُدقِّقُ أو تُناقِضُ. لذلك لا يَحضُر الآخرُ في الحدَثِ، بِالسَّرْد والْوَصْف، إلا باعتباره ظلاً لَه، إِنَّه لَيْس بديلاً مُمْكِناً لِوَعيٍ مَركَزِيٍّ قارٍّ فِي النصِّ، بل هو ضمانةٌ على قُدرةِ السّردِ على استيعابِ وُجُودِ الذّاتِ في وجُودِ “الآخر”، النّظِيرِ. إنّ مسعوداً يَحيا في الماضِي من خلالِ ضَميرِه النّحويِّ، ويَتحرّكُ في الحاضرِ وفق ما يُوحِي به رديفٌ يُعلّقُ على أفعالِه من خارجِه، فهو ضميرُه في الحياةِ، في السّياسةِ والإيديولوجيا.
وعلى منوالِ هذَا الانْشطار فِي الأصْوات يَتِمُّ تَوزِيعُ باقي الشَّخْصيَّاتِ وتتحَدَّدُ طَبِيعَةُ الأحْداثِ وتتنَوَّعُ الرُّؤى فِي الوقْتِ ذَاتِه. إِنَّ الرّوايةَ لا تَحكِي تَفاصِيلَ قِصَّةٍ، إِنَّها تُعيدُ بِناءَها انطلاقاً مما يُريدُه حَاضِرُ الفعْلِ السّرديِّ خَارِج أَيَّة غَايَة عدَا غَايَةَ السّردِ ذَاتِه. فلَا طُمُوحَ لِلشَّخْصيَّة الرَّئيسةِ ولَا هدَفَ لَهَا سِوى اِجتِرارِ ذِكْريَاتٍ يَسْتحْضرُهَا مَسعُود ضِمْن رُوتينٍ يَومِيٍّ لا يَعِد بِأحْدَاثٍ: “هل يُمْكِنه ولو لِمَرّةٍ وَاحِدةٍ ألا يُفْسدَ القِصّةَ بِقتْلِهَا فِي مُنْتَصفِ الطّرِيقِ؟ فَقال كَأنَّه يَهمِسُ بِذَلك لنفسِه: والقِصّةُ؟ أَلَا تَقتُلنا هِي الأُخرى فِي مُنْتَصف الطرِيق؟. وهي الحالةُ التي تُجسّدُها أيضاً محكيّاتُ علاقاتِه النّسائيّةِ: مقابلَ قِصّة هيلين، الحبُّ والثورةُ والإنجابُ، هناك قِصّة نور الهدى، روتينُ الوظيفَةِ واللحظاتِ المسروقةِ من زمنٍ يُجسّدُ الفشلَ في الاتّجاهينِ، وفي مقابلِ التّجربتينِ هناك حكايةُ الخادِمةٍ الفيليبينيّة التي تُغطّي في الـمُجْمَلِ ما تَبقى من مُتَعٍ تُعاشُ في وقتٍ مُستقطَعٍ من دفْقٍ زمنيٍّ يَشكو من وحشةٍ في الرّوحِ.
وهذا معناه أنّ استيعابَ عوالمِ الرّوايةِ يَقتَضي تَفكيكَ الحدَثِ الموصُوفِ فيها، أيْ التّقليصَ مِن مَدَاهِ الفعْلِيِّ والعودةِ بِه إِلى ظِلاله الرَّمْزيَّة، ما يُجرّدهُ في الذّهنِ ويحوِّلُه إلى مفهومٍ صامِتٍ، أو ما يقودُ إلى إفراغِه من زمنيّتهِ ليُصبِحَ وعياً تخييليّاً خالصاً للكونِ. وَدُون ذَلِك سَتكُون الرّوايةُ مُجرَّد هَذَيانٍ عَابِرٍ فِي الذَّاكرة. إنّها تَضَعُ مُنْذ لَحظاتِها الأولى روابِطَ غيرَ مرئيّةٍ بَيْن “غطاءٍ إيْديولوجيٍّ” تَتَبلوَر ضِمْنهَ مَواقِفُ سِياسِيَّةٌ صَرِيحَةٌ تُدينُ العسْفَ والظُّلْمَ والفسادَ والشّططَ والتَّفاوتات فِي الثَّرْوةِ والجاهِ، وبيْن شَرْط الإنْسانِ فِي الأرْضِ، قَلقِه وخوْفِه وهشَاشَتِهِ ورغْبَتِه فِي اِحتِضانِ مَا يَستعْصِي على الضمِّ والتّجميعِ، بالحقيقَةِ والمجازِ. وهذا ما يُفسِّرُ ازدواجيّةَ الوعْيِ المركزيِّ، فهو الذي يتحكّمُ في تَوجيهِ السّردِ، وهو الّذي يَعوقُ تطوُّرَه أيضاً.
إنّها تقنيّةٌ في البوْحِ الغايةُ منها التحكُّمُ في مُجمَلِ الأحاسيسِ والأفْكارِ التِي يُسْندُهَا الصَّوْتُ السَّارد إِلى مسعود. هُنَاك تَفاصِيل لا تُرى تَنتَقِل مِن مَسعُودٍ إِلى “الآخر” مِن أَجْل التَّنْصيصِ على تَطابُقٍ أو تَنافُرٍ دَاخِل الذّاتِ نفْسِهَا. إِنَّ السَّرْد يَحرِصُ على الفصْل بينهما مِن أَجْل الوصْلِ بين ماضي الشّخصيّةِ وحاضِرِها: مسعود يُصفّي حسابَه مع نفسِه ومع جيلِهِ من خلال صوتِ “الآخر”. وتلك إشارةٌ إلى أنّ الوجودَ لا يُختصَرُ في ما نفعلُ أو ما فعلناه فقط، بل يَشمَلُ كلَّ ما رغِبْنا فيه أو تمنّينا القيامَ به أو كنّا نودّ تجنُّبَه. لذلك كانَ العالمُ دائما أوسعَ وأرحبَ في التّمثيلِ الرمزيِّ، بما في ذلك حضورُه في اللّغةِ وفي السّردِ.
وهكذا ولكَيْ تُوصفَ كلُّ واجهاتِ شَخصِيّةِ مَسعُود فِي النَّص، لم يُكلِّفِ السَّرْدُ نفسَه عناءَ التّنويعِ من السِّجلّاتِ الكلاميّةِ، لقد قام فقط بِإسْقَاطِ ضميرٍ يَتّخِذُ شكْلَ “هُو” مُجسَّدٍ فِي “آخر” تَمتزِجُ داخلَه القيمُ وتَنتشِرُ في الشّخصيّاتِ الأخرى. وقد يَكُون ذَلِك فاصلا بَيْن “أنَا” تَعِي ذاتهَا فِي حَقِيقَة الفعْل اليوْمِيِّ، السِّياسيِّ أو المهْنِيِّ، وبيْن أُخرَى تَطمَحُ إِلى أنْ تَكُون أَكثَر مِن ذَلِك، أو تُشكِّك فِي مَا قامت به، إنّها في جميع الحالاتِ تبوحُ بقُصورها في مسْعاها في الحاضرِ والماضِي. لم يَعُدِ “الفَضاءُ العموميُّ” مسكوناً بالطّمأنينة، ولم يعُدْ محتَملاً عندَما سَقطَتْ كلُّ الأحْلامِ: “فِي حَيَاة مَسعُود خسارَاتٌ مَجِيدَةٌ، وَأُخرَى أقلُّ مجْدًا. إِنَّه مَهما فَعل ومهْمَا انتظَر، فَإنَّه لَن يُعدِّل النَّتيجةَ، سَيُنهِي حياتَه بِهَا دُون أن يَعرِفَ حَتَّى مَا هُو الفوْزُ الذِي كان مُمْكِناً، كَانَت لَه فِي البدايةِ حَيَاةٌ وجَد فِيهَا نَفسَه مُرْغمًا مَقهُورا، ثُمَّ حصلَ على حَيَاةٍ أُخرَى أقلَّ قهْرًا بِفَضلِ النَّاسِ وهذِه المدينةِ، ثُمَّ هَاجَر والْتَقى بِهيلِين فأخْرجتْه تدْريجيًّا مِن سُوء تفاهُمِه مع العالم . . . وَبَعدمَا رَحلَتْ وجدَ نَفسَه يَتَدحرَج تِلْقائيًّا إِلى حَياتِهِ السَّابقة كَأنَّه سيبْدأ مِن الصِّفْر”.
وهي صيغةٌ أخْرى للقَولِ إنّ البطلَ في الرّوايةِ ليسَ فاعلاً من أجلِ “التّغييرِ”، إنّه ذاتٌ للرّغبةِ خارجَ برنامجٍ يقودُ إلى تحقُّقِها، فهو” يُؤمِنُ بالثّورةِ ولا يَفعلُ شيئاً من أجْلِها”، والآخرُ داخلَه “لا يثِقُ بشيءٍ، ولا يتحمّسُ لشيءٍ”. فليس هناك ما يَدفعُه إلى الفِعلِ غير ما تَتطلّبُه إكراهاتُ بقاءٍ بلا غوايةٍ ولا إغراءٍ ولا توجّسٍ. إنّ مسعوداً موجودٌ في النصِّ من خلال ما سبقَ أنْ فَعلَ أو ما تَوهّمَ أنّه فعلَ أو ما لا يُريدُ فِعلَه أصلاً، فليستِ الوقائعُ الموصوفةُ فيها سوى إسقاطٍ لرغباتٍ كثيرةٍ ليس هناك في النصّ ما يُوحِي أنّها قابلةٌ للتحقّقِ.
لذلك يَنصبُّ الوصْفُ فِي الرّوايةِ غالباً على حالاتِ النَّفْس، لا على الفعلِ الذي تقومُ به الشّخصياتُ. فمسعود منفعلٌ دائماً: إنّه غاضبٌ وحزينٌ ومندفعٌ ومتشائمٌ، وفاقدٌ للرّغبةِ في كلِّ شيءٍ. لذلك كانَ السّردُ مَعْنياً بوضعِ العالمِ فِي “أهواءِ” الشّخصيّاتِ لا بتَغيِيرهِ. وضمنَ ذلك يَتمُّ خلقُ مناخٍ عُصابيٍّ يحكُمُه الرُّعبُ والخوفُ والموتُ الذي يَنتَشِرُ في ذاكرةِ السّردِ التاريخيّةِ (انتفاضة 81) ويَسكنُ الكائناتِ التي تَتربّصُ بمسعود في كلِّ مكان، في بواباتِ العِمَاراتِ وفي الحدائِق العموميّةِ.
وَمحكِيُّ القتْلِ والصِّراعِ الدَّمَويِّ حَتَّى الموْتِ ثَابِتٌ فِي الرّوايةِ مِن بِدايتهَا إِلى نِهايتهَا، بل إِنَّ الرّوايةَ تَذهَبُ إلى أَبعَدَ مِن ذَلِك، فَهِي تَخلِطُ قصداً بَيْن جَرائِم “فِعْليَّة” سجَّلهَا تَارِيخُ المغْرِب الحدِيثِ (مَقتَل البرْلمانيِّ فِي الدَّار البيْضاء) وبيْن جَرائِمَ مُفترضَةٍ أو مُحتملَةٍ لَيسَت سِوى هَذَيانٍ أو كَوابِيسَ تُلاحِقُ البطلَ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَهُو مَا تَكشِفُ عَنْه الكثِيرُ مِن مشَاهدِ القتْلِ أو التّهديدِ به. يتعلّقُ الأمرُ بصِيغةٍ رَمزِيّةٍ لا تُبرِّرُ التَّداخلَ بَيْن الحدثيْنِ، الفعليِّ والتَّخْييليِّ، بل تَضَعهُمَا، في اختلافِ وجودِهما، ضِمْن سِجلٍّ وَاحِدٍ قد يُحيلُ على عَبَثيَّةِ الشّطَطِ السِّياسيِّ أو على عَبَثيَّةِ الوُجود ذَاتِه.
تُعلنُ الرّوايةُ ذلك منذ بدايتِها. فهي تُفتَتَحُ بِصراعٍ لا يَتَبيَّنُ القارئ مَصْدَرَه: اقتتالٌ عنيفٌ بين مسعود وكائنٍ ملتصقٍ به إلى حدّ التماهيِّ، لا يقولُ السّردُ أي شيءٍ عن هويّتِه. إنّها “رغبةٌ في القتْلِ”: “أيْقظَتْه الرَّغْبة فِي القتْل، كان مُسْتلْقيًا على ظَهرِه فِي ظَلَام الغُرفة، وَلكِنّ الشَّخْصَ الذِي أيْقظَتْه رَغبَةُ القتْلِ كان واقفًا يَأكُل الحَقدُ مِن جَسدِه كمَا تَأكُل النَّار حطبًا يابسًا. هاجَمه العدُوُّ من مَكْمنٍ خَلْف الحديقَةِ…. الرّغبةُ في قتلِ شخصٍ مُلتَصقٍ بظهرهِ”. وتَنتَهي بالرّغبةِ ذاتِها، تأهبٌ للاقتِتالِ والصّراعِ من جديدٍ:
” فَتَحَ شُقّتَه فلَمَحَ ورقةً كبيرةً تحتَ البابِ. قرأَها وهو يهُمُّ بالتِقاطِها.
-أنا في الحديقَةِ.
فأغلقَ بابَ الشقّةِ ونزل مُسرعاً مهتاجاً يسبقُه ظِلّ الغوريلا”.
وبيْن البدايَةِ والنِّهايةِ هُنَاك الكثِيرُ مِن الجُثثِ: جثثٌ ملْقاةٌ بين أنقاضِ الفنادقِ وأخرى ملقيةٌ في الشَّوارعِ والـحدائقِ العامَّةِ، والكثير مِن قَتلَى سابقين ولاحقين في الانْتفاضاتِ، وقتلى الجرائمِ العامّةِ والخاصّةِ في المدينةِ. عالـمٌ كابوسيٌّ يسكنهُ قتلٌ ومَوْتٌ غَامِضٌ وجُناةٌ مجْهولون دائماً. إِنَّه عُنْف يَسكُنُ هَذِه المدينةَ ويَنتشِرُ في أزقّتِها، ولَكنَّه عُنْفٌ يَستوْطِنُ الأذْهانَ والنُّفوسَ أيْضًا. إنّ الدّمَ في كلّ مكان، وتكادُ الكلماتُ التي تَصفُه في نصِّ الرّوايةِ تَنِزُّ دماً. “قال صوتٌ خرجَ مبْحوحاً من الكتلَةِ الهائجَةِ:-سأقتلُكَ. كان صوْتًا فقط، وليْس شخْصًا يُصْدِرُه…. كأنّ هذه الجملةَ قيلتْ في حُلُمٍ قديمٍ”.
كان صوْتًا فقط، أيْ كان أَكبَرَ وأوْسعَ مِمَّا يُمْكِن أنْ يَقُومَ بِه شَخْصٌ مُفرَدٌ أو شَخْصٌ مَعزُولٌ، قد يَكُون هو التّجسيدَ الفعليَّ للسّلطةِ، أو هُو القدَرُ ذاتُه، أو قد يَكُونُ مجرّد اِخْتياراتٍ سِياسِيَّةٍ لَم يَتِم الحسْم فِيهَا بِشَكل صحيح، أو هُو مسارٌ حياتيٌّ يُمكنُ أنْ يقودَ إلى الضّياعِ. إنّه في جميعِ الحالاتِ اِنشِطارٌ فِي ذاتٍ لَم تكنْ قادرةً على استيعابِ طاقاتِ العنفِ داخلَها، فَأَسقطَت خارجَهَا صوْتًا يَقُول مَا لَم تُقلْه هِي بِشَكل مُبَاشِرٍ. وبذلك قد تكونُ “معقوليّةُ” الحدَثِ في الرّوايةِ مجرّدَ غطاءٍ لاستعارةٍ وجوديّةٍ تتجاوزُ ما يصفُه الملفوظُ: كيفَ يُمكنُ أنْ نرُدَّ عنفَ السّلطةِ لكي نَتخلّصَ من العُنفِ داخلَنا؟
وفي هذه الحالةِ يستعيدُ النصُّ الصّورةَ الكبيرةَ للعنفِ الذي يَتراوحُ بين ما يأتي من انتفاضاتِ وثوراتٍ سابقةٍ، أو يكونُ حاصلَ التزامٍ سياسيٍّ لا يُلزِمُ صاحبَه بأيّ شيءٍ، وبين ما هو ملازمٌ لخيباتٍ وحسرةِ على ثوراتٍ لم تكتمِلْ دفعتْ الكثيرين إلى الرّضا مِنَ الغَنِيمَةِ بالإيَابِ: “كُلمَا اِكْتشفْنَا عِظامًا نَخرَة اِرتفَع التَّهْليل بِالإنجازِ العظِيم: لَقد أصْبحْنَا أُمَّةً بِلَا ماضٍ مُرْعِبٍ تَعرِف قتْلاهَا وتَنشرُ أسْماءَهم فِي التَّقارير. يَا لَه مِن تَحوُّلٍ عظيمٍ ! لِنُقبِّل أقدَامَ السُّلْطةِ الجديدةِ التِي أعادتْ إِليْنَا قَتلَى السُّلْطةِ القَديمةِ، هذَا مَا يُسمَّى طيُّ صَفحَةِ الماضِي”.
ولأمْرٍ مَا يُصِرُّ السَّرْدُ على “التَّسَتُّر” على حَقِيقَةِ القتَلةِ والْوَحْشِ الكاسِرِ الذِي يُهدِّدُ مَسعُوداً بِالْقَتْل. إِنَّه “جسدٌ” فقط، كما كان صوتاً فقط، إنّه، في الحالتينِ معاً، كِيَانٌ كُلِّيٌّ قَادِرٌ على اِسْتيعاب كُلِّ الصُّور الممْكنة لجرحٍ قديمٍ يلاحِقُه ويُريدُ التخلّصَ منه، أو وسيلةٌ لاستيعابِ عنْفِ “سُلطةٍ مُفْرطَةٍ” مجسّدةٍ في قُوى تُهدّدُ أمْنَ النّاسِ في المجتمعِ، أو في قدرٍ يُهدّدُ شرطَ وجودِهم في الأرضِ. لَم تَكُن هذه المشاهدُ وليدةَ هاجسٍ عرَضيٍّ أو تعبيراً عن موقفٍ عابرٍ، بل هي اِندِفاعٌ قَوِيٌّ نحو المجهولِ والقدرِ الغامِضِ، سيذْهبُ بالسَّاردِ إِلى حُدُود التَّفْصيل فِي مَعاركَ يخوضهَا مسعود مع غريمٍ قَوِيّ وَجَبّارٍ وَعتِيّ دون أنْ يعرفَ القارئُ من هو؟ وما الدّافعُ إلى الاقتتالِ؟ قد يكونُ هو ذاتُهَ: اِقتِتال إلى حدِّ الموْتِ بَيْن قوّتينِ تُوجدَان فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ.
يتعلّقُ الأمرُ بسلسِلَةٍ من الاسْتيهاماتِ والصُّور المنْبعثَةِ مِن الذَّاكرةِ أو من لاشعورٍ فرديٍّ أو جمعيٍّ، إنّهَا الموجِّهُ المركزيُّ فِي الاقْتصاد الرّمزيِّ الذي يُؤطّرُ الرّوايةَ من بدايتِها إلى نهايتِها، إنّه يُشيرُ إلى اللّحظَةِ التي يَنصهِر فيها مَسعُودٌ في هُويَّتِه كمَا يُريدُها فِي شَرْط وُجودِه الجديدِ. لقد تخلّصَ من “الآخر” ليَرى الحياةَ بعينيْهِ ويواجِهَ نفسَه في الحديقَةِ، أي في هامشٍ من عُمرٍ معدودٍ. لذلك لَا تَهتَمُّ الرّوايةُ بِالفاعلِ، إِنَّها تُركِّزُ على العُنفِ فِي ذَاتِه. هُنَاك وَصْفٌ كثيفٌ لا يَرى القارئُ فيه مجرّدَ كلماتٍ تصفُ، وإنّما يَستحْضِر مِن خِلالِهَا الطَّاقةَ العنيفةَ التِي تَجمَعُ بَيْن المتصارعيْنِ. لقد كان فِي البدايةِ وحْشًا يَتَهدَّدُ مَسعُوداً، وَكَان فِي النِّهاية صوْتًا غريبًا يَدعُوه إِلى مصيرٍ مجهولٍ تَتركهُ الرِّواية مَفتُوحا على كُلِّ الاحْتمالات: الرّسالةُ التي تَدعوهُ إلى لقاءٍ غامضٍ في الحديقَةِ. إنّه نداءٌ غريبٌ، قد يكونُ هو البعثُ الجديدُ أو هو التّسليمُ بقدرٍ لا رادّ له.
لا تَجنَح الرّواية، في كلِّ ذلك، إِلى تَوجِيه القارئ إِلى حَدِثٍ “فِعْلِيٍّ”، فهي ليست قولاً، إنّها مجردُ نيّةٍ في القولِ، وهي بذلك تمثيلٌ رمزيٌّ لقوى لا يُمكنُ أنْ تُصبحَ مرئيّةً إلا من خلال التّشخيصِ الحدَثيِّ. فلم يُصْبحِ الحدِيثُ عن السُّلْطةِ مُقْنِعاً إِلَّا عِنْدمَا جرَّدَها السّاردُ مِن وجْهِهَا كمَا يُمكنُ أنْ تَتجسّدَ فِي مُؤسسَاتِ الأمْنِ والسياسة والإيديولوجيا، وكما تَنْتشرُ في مؤسَّساتِ الضَّبْط الاجْتماعيِّ، وسرّب صورتَها إلى كلِّ شيءٍ في محيطِ الشخصياتِ.
فهذا التّشخيصُ كان هو سبيلَها إِلى الباطنِ، بَاطِنِ النُّفوس والْفضاءاتِ، حِينهَا ستتسلّلُ إلى أحلامِ النّاسِ وأَوهَامِهم: عُنْف السُّلْطةِ والْمجْتمعِ وعنفُ القَدرِ ودفْقُ الزّمنِ الذي لا يَتوقّفُ. إنّ السُّلْطةَ لَا تَتَحكَّمُ فِي الواقعيِّ فحسب، إنّها تَرسُم حُدُودَ الممْكِن أيضاً، فنحْن نَتَمتَّع ونعيشُ في الفضاءِ العموميِّ كمَا يُرادُ لنا أنْ نعيشَ، فَكُلُّ شَيْءٍ مَرسُومٌ بِشَكلٍ سَابِق فِي مساراتٍ هي التي تُحدّدُها، فهي التي تَقتلُ وهي التي تُعلّمُنا كيفَ نَنْسى القتْلَ، وتعلّمنا كيف نَعفو عن القاتِلِ أيضاً.
0 تعليق