تطن الذبابة وتحلق في أرجاء المكان، ثم فجأة تبدأ في الإتيان بسلوكات غريبة، فتتباطأ حركتها وتنتفخ بطنها ويسيل من جسمها سائل أبيض لزج. وعند شروق الشمس تصاب الذبابة بحالة من النشاط المفاجئ، فتحلق إلى مكان مرتفع وتلتصق بغصن أعلى شجرة بواسطة مادة لزجة تفرزها من فمها ثم ترفع أجنحتها لأعلى وتموت. وفي أسفل الشجرة يتساقط رذاذ تلك المادة التي تفرزها الذبابة بعد موتها على حشرات أخرى في المكان، فتنتقل إليها تلك العدوى الغريبة، وهكذا تبدأ دورة حياة المرض من جديد.

وتوصل العلماء إلى أن هذه المادة اللزجة التي تسيل من جسم الذبابة هي نوع من الفطريات يطلق عليه اسم Entomophthora Muscae، واصطلحوا على تسميته “قاتل الحشرات”، وهو عبارة عن عامل مسبب للمرض يعتمد بالكامل على جسم العائل، ويجعل الحشرات في حالة غيبوبة على غرار “الموتى الأحياء” الذين يظهرون في أفلام الرعب، حيث يسيطر على عقل الحشرة ويخضعها لإرادته بشكل كامل.

وتم اكتشاف هذا الفطر قبل أكثر من 160 عاما، لكن الطريقة التي يعمل بها للسيطرة على عقول الحشرات ظلت تحير العلماء والباحثين طوال تلك الفترة. ويقول الباحث هنريك دي فاين ليشت المتخصص في علم الأحياء التطوري بجامعة كوبنهاجن في السويد إن هذا الفطر استرعى انتباهه في البداية لأنه كان مهتما بدراسة العوامل المسببة للأمراض التي تعتمد على العائل، مضيفا في تصريحات للموقع الإلكتروني Knowable Magazine المتخصص في الأبحاث العلمية: “بالطبع أشعر بالإعجاب حيال طريقة عمل هذا الفطر وكيفية تلاعبه بضحاياه”.

ويرى هنريك ليشت أن طريقة عمل هذا الفطر تشبه ما يحدث في أفلام الرعب، فعندما يصيب الفطر الحشرة في بادئ الأمر فإنه لا يتوجه مباشرة إلى أعضائها الحيوية، بل يبدأ في استهلاك الدهون والمغذيات الأخرى في جسمها، ويجعل الحشرة تدريجيا تتضور جوعا دون أن يقتلها. وعندما يأتي الفطر على جميع الأعضاء غير الحيوية في الذبابة يبدأ السيطرة على سلوكاتها من أجل ضمان استمراريته، إذ يجعلها تحلق إلى مكان مرتفع والالتصاق به قبل أن تبدأ نشر العدوى بين حشرات أخرى من خلال تلك المادة التي تحتوي على الجراثيم.

ويقول هنريك ليشت إن الفطر ينتهج طريقة غريبة في اقتناص ضحاياه والتلاعب بهم عن طريق إفراز رائحة معينة من جثث إناث الذباب، لاجتذاب الذكور السليمة، وعندما يقترب الذكر ويحاول التزاوج مع الجثة المصابة بالفطر ينتقل إليه المرض. وفي دراسة أجريت عام 2022 بجامعة كوبنهاجن قام الفريق البحثي تحت رئاسة هنريك ليشت بتشريح ذبابة نافقة وتحليل المواد الكيماوية التي تفرزها، وكذلك الهواء المحيط بها، وتوصل إلى أن الفطر يفرز مواد كيميائية متطايرة في الهواء يمكنها اجتذاب الذكور للاقتراب من جثة الذبابة، وبالتالي التقاط العدوى، وأضاف أنه ليس من الواضح تماما ما إذا كانت تلك المواد المتطايرة تجعل ذكور الذباب تقترب من جثة الذبابة بدافع التكاثر أو الغذاء. ويبحث العلماء فرضية أن الحشرة تقترب من الذبابة المصابة في البداية بدافع الغذاء، لكنها عندما تشتم المركبات المتطايرة تحدث لديها استثارة تحرك غرائزها للتكاثر.

وتلاحظ لدى الباحثة أنيت جينسن، أخصائية علم الأحياء العضوي بجامعة كوبنهاجن، أثناء إجراء تجارب بشأن طريقة تفاعل الحشرات السليمة مع جثث الذباب المصابة بالفطر، أن حشرة أبو مقص earwig التي تقتات في العادة على الحشرات النافقة تفضل التغذي على الحشرة النافقة المصابة بالفطر أكثر من الحشرات النافقة لأسباب طبيعية أو غير مصابة بالفطر بشكل عام. وأرجع العلماء في الدراسة التي نشرتها الدورية العلمية Annual Review of Entomology هذه الملاحظة إلى طبيعة المركبات المتطايرة التي يفرزها الفطر حول جثث ضحاياه لاجتذاب الحشرات السليمة، التي يمكن أن توصف حسب الدراسة بأنها “مغذيات خارقة”.

وفي دراسة بحثية نشرت العام الماضي وجدت الباحثة كارولين إليا، أخصائية علم الأحياء على مستوى الجزيئات بجامعة هارفارد، أن الفطر المذكور يفرز مادة في دم الحشرة للتحكم في خلاياها العصبية، ولذلك عندما تصاب أي حشرة بهذا الفطر فإنها تأتي بسلوكات كما لو كانت في حالة غيبوبة.

ووجدت إليا أن الخلايا العصبية المسؤولة عن الإيقاع اليومي للحشرة ربما تكون هي المستهدفة من تلك المادة المشار إليها، إذ إن تعطيل وظيفة بعض هذه الخلايا ربما يكون هو الباعث وراء تغيير سلوكات الحشرة في المقام الأول. وتوصل الباحثون أيضا إلى أن الفطر ربما يتحرك أيضا على مستوى الجينات داخل الحشرة من أجل الاستفادة بشكل كامل من أنسجتها والمغذيات داخلها، بما في ذلك الجينات التي تتحكم في إنزيم التريهالوز المسؤول عن هضم مركبات السكريات الأساسية، وكذلك أنزيم الكايتناز المسؤول عن البروتينات في جسم الحشرة.

وتقول إليا إن طريقة عمل الفطر تبدو منطقية، وتوضح أنه يتحرك بشكل متخصص للاستفادة من جسم العائل، فهو لا يريد قتل الحشرة بل يريد أن ينمو داخلها والتغذي عليها. ويرى هنريك ليشت أنه من الممكن تدريس منظومة عمل هذا الفطر في المدارس من أجل اجتذاب الطلاب المهتمين بالعلوم، وقال إنه أعد لائحة إرشادات بشأن كيفية ملاحظة هذه الظاهرة في المختبرات المدرسية وترغيب المدرسين والطلاب على حد سواء في الاهتمام بهذا المبحث العلمي.