يتابع الدكتور محمد الشيخ فى كتاب "فيروز.. وسوسيولوجيا الإبداع عند الرحبانية 1960 – 1980" والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بقوله: في العام 1969 تقدم مسرحية جبال الصوان التي فيها تم تركيب قصة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي على الانتفاضات اللبنانية ضد الاحتلال والظلم الاجتماعي، حيث يتم التركيز على الانتفاض ضد الظلم، وتظهر نظرة لعوب تجاه مفهوم الغربة والاغتراب: فيروز اسمها غربة، وهى المنذورة لتحرير الشعب من الاحتلال الأجنبي. ينشد الكورس: "رجعت غربة اللي ربيت بالغربة / تا تخلصنا من هالغربة"، هنا يصبح التسامح أكبر تجاه الفلسطيني الغريب المنوطة به مهمة التحرير. بعد عرض المسرحية بسنوات، أثناء الحروب الأهلية اللبنانية "1975- 1990"، سوف تصبح هي العمل الأكثر شيوعًا في لبنان، حيث كل فريق من الفرق المتنازعة وفى عملهم المبكر (الليل والقنديل) تحدثوا عن الصراع بين الظلام والضوء.
بين ليل القرية الغارق في السواد والجهل، وبين ضوء القنديل الذي يحمل النور والأمل لأهل القرية، ويكشف مكامن النبل والنقاء فى نفس المجرم الفار من وجهة العدالة، فيعيد إليه شيئًا من الإحساس بالتزاماته الإنسانية. وكأنهم بذلك أرادوا القول بأن دور العلم والحضارة، وقناديل السهر في ليالي الألفة، هي التي تصنع المعنى الحقيقي للأمان والسلم الاجتماعيين. وتطهر المجرمين من آثامهم، بل تنير لهم دربًا آخر، قد لا يسلكونه عندما تفتح أمامهم الطرقات المنيرة، وفى (بياع الخواتم) الذي دخل به الرحبانية عالم السينما عام 1965م، بعد أن قدموه كعمل مسرحي، ثمة نقد سياسي عميق، لكل الأنظمة التي تبرر وجودها وامتيازاتها باختراع عدو خارجي.
ويأتي تأثير صوتها وتلوينه المختلف في جميع الأعمال الوطنية بين الحزن والانتظار والانكسار والتحدي والأمل والاستمرار في الكفاح والنضال. وغنت لكل بعيد، عليه يرجع. لكل طفل صلت عليه يكبر. للموجوع والحزين أنشدت للقرية والريف والمدينة صدح صوتها، لبيروت والحب والشمس والقمر، إنها "سفيرتنا إلى النجوم" كما يلقبها اللبنانيون. حصلت فيروز على وسام الاستحقاق اللبناني من الرئيس كميل شمعون، وهو أعلى وسام فى الدولة يناله فنان. وقدم لها الملك حسين ميدالية الكرامة، وكانت تلك أول ميدالية يقدمها الملك، كما منحها وسام النهضة الأردني من الدرجة الأولى وهو أرفع وسام في المملكة الأردنية الهاشمية ويُهدى للملوك ورؤساء الدول. وكرمت سوريا فيروز ومنحها الرئيس نور الدين الآتاسى، وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، وحصلت فيروز على جائزة "مفتاح مدينة القدس"، وقلدها وزير الثقافة الفرنسي جاك لانج وسام الفنون والآداب "الكومندور" في عهد فرانسوا ميتران، وهو من أهم الأوسمة في أوروبا. وتم إصدار طوابع بريد تذكارية عليها صورة الفنانة فيروز كنوع من التكريم من بلدها لبنان الذي لم تتركه ورفضت النزوح منه، حتى حين فقدت ابنتها "ليال" بعد أن تعرض منزلها لقصف صاروخي في الحرب اللبنانية، ممثلة بذلك أعلى درجات حب الوطن والانتماء، وبقيت فيروز طيلة فترة الحرب منقطعة عن الغناء في لبنان حتى لا تحسب على فئة دون أخرى.
تعتبر أعمال الرحبانية وفيروز جزء من مسيرة الحداثة في الموسيقى العربية، وذلك لأنها حداثة منطلقة من العناصر الحية في التراث الموسيقى العربي، ويتبلور ذلك في المزج بين الفولكلور والكلاسيكية، فعندما تغنت فيروز للضيعة اللبنانية، اقترن غناؤها إلى حد بعيد بالقرية العربية، ومن أمثلة ذلك في مسرحية "جسر القمر" قدمت الضيعة العربية في نموذجها اللبناني، كما تتجلى ملامح الضيعة وإبرازها في أعمال غنائية تضمنت ذكر كل ما يتعلق بعين الماء والمعصرة، والطاحونة، والساحة العامة، وتلال القرية. ولم تقتصر أغنية فيروز على الدور التسجيلي في إطاره الموسيقى والصوتي، بل دعت إلى العمل والزراعة وسقى المزروعات في أجواء الأزجال والمواويل وفنون القول، فقد شكلت أغنية فيروز من خلال تمكين أساليب الحداثة من التراث بإعادة صياغته ليصبح حافزًا نهضويًا، فهي على الأقل ساهمت بفعالية في إيجاد مناخ ثقافي وفني دعا إلى الحوار والتحرر.
وفى الخاتمة يقول الدكتور محمد الشيخ: هي عصفورة الشمس وزهرة الحرية، هي الشاهدة المنسية على القدس العتيقة، هي زهرة المدائن، هي صوت الشجن والندم والفراق واللوعة والوحدة والانتظار، والإيثار والوعد، هي كرامة العشاق وحرقة الأشواق، هي نسمة الصيف وبرد الشتاء، هي التراتيل والآذان، هي المواسم والحصاد. تنظر إليها بأذنيك فتفتح لك صندوق الدنيا، حين تنعم عليك بتراتيل فترى أرض المسيح، ومريم، وتشعر بالغفران فتتنفس صعداء الجمعة الحزينة، وتقضم أرغفة العشاء الأخير وتنهل من تراتيل العذراء، تجوب بك شوارع القدس القديمة، فتدخل أغوار الرؤيا الفضية ويخال لك البراق، والجامع والمصلى، وترتعد قدماك من مخيلة عمر بن الخطاب.. إنها الكبيرة فيروز.
0 تعليق