قال الأكاديمي المغربي الحسن بوقنطار إن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا جاء بشكل مفاجئ، إثر هجوم مقاتلي هيئة تحرير الشام؛ مما أجبر الأسد على مغادرة البلاد إلى روسيا التي منحته اللجوء الإنساني، مشيرا إلى أن هذا الحدث يعيد إلى الأذهان ما حدث للرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي في بداية الربيع العربي.
وأشار بوقنطار، في مقال له بعنوان “سوريا.. أيُّ انتقال سياسي؟”، إلى أن الحدث يمثل تتويجا لمسار طويل من الصراعات والمعاناة التي عرفتها سوريا منذ عام 2011. وأورد أن تداعيات هذا التحول تمتد إلى المستويات المحلية والإقليمية والدولية، خاصة في ظل التغيرات التي طرأت على مواقف الحلفاء التقليديين للنظام السوري، كإيران وروسيا.
نص المقال:
لم يكن أحد يتوقع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا بهذه السرعة، التي فاجأت كافة المتتبعين لما يجري في المنطقة من أحداث متوالية. بضعة أيام على بدء هجوم مقاتلي هيئة تحرير الشام كانت كافية لإرغام الرئيس بشار الأسد على مغادرة البلاد في اتجاه روسيا التي منحته اللجوء الإنساني؛ وهو بذلك يذكر بما فعله الرئيس التونسي الأسبق الراحل زين العابدين بنعلي، الذي التجأ إلى المملكة العربية السعودية في بداية ما عرف بالربيع العربي.
وفي الواقع، بصرف النظر عن عنصر المفاجأة وانعدام التوقعية التي وسمت كثيرا من الأحداث الهائلة التي عرفها النظام الدولي، فإن هذا الحدث إنما يتوج في العمق مسارا مليئا بالصراعات والمعاناة التي عرفتها سوريا والمنطقة برمتها، خاصة منذ سنة 2011. في الوقت نفسه، فإنه يطرح تساؤلات حول تداعياته، سواء منها المحلية أو الإقليمية أو الدولية.
أولا: أكثر من عشرين سنة من الاستبداد والمعاناة
في شهر يوليوز 2000، أصبح بشار الأسد رئيسا للبلاد، شهرا بعد وفاة والده حافظ الأسد، الذي حكم سوريا لمدة ثلاثين سنة. ولاعتبارات عديدة مرتبطة بتكوينه الطبي، ومساره السياسي، فقد كان يعطي الانطباع بإمكانية نهج أسلوب أكثر انفتاحا، وأكثر احتراما للحقوق والحريات والتعددية؛ لكن هذا الأمل سرعان ما سيتبخر، بعد فترة قصيرة من الانفتاح السياسي التي اتسمت بإطلاق عدد من المعتقلين السياسيين المنتمين خاصة إلى حركة الإخوان المسلمين، فقد واصل نهج أبيه في حكم البلاد القائم على السلطوية، والاستفراد بالقرار، وقمع كل مطالبة بالديمقراطية والحرية.
في خضم ما عرف بالربيع العربي، اندلعت مظاهرات للمطالبة بإجراء إصلاحات سياسية واسعة، تتضمن بالأساس استعادة الحقوق المدنية والسياسية ورفع حالة الطوارئ التي كانت سائدة منذ سنة 1963؛ لكن بدل البحث عن حلول لتلك المطالب، فقد ووجهت بحملة من القمع، واستعمال القوة بشكل مفرط ضد المعارضين، مما أفضى إلى حرب أهلية، اعتبرت الأكثر دموية في القرن الحادي والعشرين نظرا لما خلفته من آلاف القتلى والمشردين والنازحين إلى دول أخرى. أكثر من ذلك، فإنها ستفضي إلى تقسيم البلاد وخلق مناطق للنفوذ، مدعومة من لدن بعض الدول.
إذا كان نظام بشار الأسد قد استطاع الصمود في وجه هذا الإعصار، فإن ذلك تحقق له بفعل مساندة حلفائه، وأساسا إيران، التي كانت تتمدد خارج حدودها، عبر حزب الله الذي ساهم بفعالية كبيرة في مواجهة المعارضة المسلحة بتلويناتها المختلفة.
لم يقتصر الأمر على هذين الحليفين المباشرين؛ بل إن النظام سيستفيد من تدخل القوات الروسية. وقد تم ذلك في سياق تراجع الرئيس الأمريكي أوباما عن استعمال القوة ضد النظام بعد اتهامات له باستعمال الأسلحة الكيميائية في الغوطة في شهر غشت 2013. الأمر الذي ستستفيد منه روسيا، حيث قررت التدخل لمواجهة حركة داعش التي كانت قد شكلت ما عرف بعاصمة خلافتها الإسلامية في الرقة. وقد أفضى هذا التدخل العسكري، الذي تم بدءا من سنة 2015، إلى إنقاذ نظام بشار الأسد من الانهيار، وجعله عمليا فاقدا لسيادته، يعيش تحت رحمة حلفائه الإيرانيين والروس.
من الواضح أن الرئيس بشار الأسد لم يحسن تقييم تطورات الأوضاع في بلاده، وفي المنطقة. ربما اعتقد عن خطأ أنه أصبح محصنا، وأكثر قوة في مواجهة خصومه الذين دحرهم بفعل المساندة المقدمة من لدن إيران وحزب الله وروسيا؛ وبالتالي بدل تقديم تنازلات، والقيام بإصلاحات ديمقراطية تمكن من مساهمة، على الأقل، جزء من المعارضة في إدارة شؤون البلاد، فقد ظل متعنتا وماضيا في إجراء انتخابات رئاسية تضمن له الفوز بأغلبية لا تأخذ في الواقع بعين الاعتبار درجة الاحتقان والسخط السائدين في أوساط شرائح متعددة، بفعل القمع والاضطهاد المستمرين، وكذلك بفعل تردي الأوضاع الاقتصادية، حيث إن اتساع العنف والعقوبات المفروضة على النظام وتدمير أجزاء مهمة من البنية الاقتصادية أفضت إلى تراجع الناتج الداخلي، وبالتالي تزايد نسبة البطالة والفقر في البلاد.
بصفة عامة، لم يدرك الرئيس بشار الأسد أنه بحاجة إلى إجراءات سياسية جريئة وملموسة، لتجديد مشروعيته السياسية التي تدهورت بفعل الحرب الأهلية، وما ترتب عنها من معاناة بشرية وجروح اجتماعية عميقة.
أكثر من ذلك، فإن هذا الإدراك السيئ لموازين القوى تفاقم مع التحولات التي عرفها حلفاؤه، والتي جعلتهم غير قادرين على حماية النظام السوري بالفعالية السالفة نفسها.. فروسيا منذ اجتياحها لأكرانيا، باتت معنية أكثر بمآلية هذه الحرب، ومحتاجة إلى كل قواتها لمواجهة الجيش الأوكراني المدعوم من حلفائه الغربيين. وأما حزب الله، فمن المؤكد أنه فقد الشيء الكثير من تأثيره نتيجة الضربات التي وجهت إليه من لدن إسرائيل، ولا سيما بعد اختراق أجهزة اتصالاته، واغتيال جزء كبير من قيادته؛ أبرزها الأمين العام السيد حسن نصر الله، وهو الأمر الذي أرغم هذه الحركة على ترحيل عدد من مقاتليها من سوريا نحو لبنان. فهاجسها الأساس أصبح مقتصرا على ضمان البقاء، ومنع إسرائيل من توسيع عدوانها، كما برز ذلك من خلال قبول اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل. أما بالنسبة لإيران، فمن المؤكد أن الضربات التي وجهت إلى حلفائها من قبيل حزب الله و”حماس” وعجزها الواضح على الرد بشكل حاسم على الاعتداءات الإسرائيلية التي انصبت على اغتيال شخصيات إيرانية وأجنبية، سواء في سوريا، أو في قلب طهران، أبانت بشكل واضح عن هشاشة الاستراتيجية الإيرانية، ومدى قدرتها على تحقيق الأهداف المراد منها.
هذه العوامل مجتمعة أفضت إلى الانهيار المفاجئ والسريع لقوات النظام التي ربما لم تعد تملك المحفزات الضرورية للدفاع عن نظام يعتمد على الأقلية، غير قادر على القيام بالإصلاحات السياسية لإنقاذ نفسه، وفاقد لمساندة حلفائه الذين باتوا يترنحون تحت ثقل مشكلات داخلية كبيرة.
ثانيا: بين الأمل والقلق
في الوقت الذي كان النظام السوري يعتقد أنه حقق انتصارا حاسما على المعارضة المسلحة، فإن هذه الأخيرة ظلت تتفاعل مع تطورات الأحداث. ومن المؤكد أن الضربات التي وجهت سواء إلى القاعدة أو إلى حركة “داعش” بفعل الائتلاف الدولي، ربما دفعت بعض أطرافها إلى إعادة النظر في استراتيجيتها، مستفيدة من حالة الانقسام التي أصبحت تخيم على سوريا.
في هذا السياق تندرج مبادرة هيئة تحرير الشام، وهو الائتلاف الذي يقوده أحمد الشرع، الملقب بأحمد الجولاني، نسبة إلى الجولان المحتل من لدن إسرائيل، والذي يوجد مركزه في إدلب، ويتمتع بمساندة تركية، والذي نشا في سنة 2017 نتيجة توحيد عدد من الفصائل الجهادية، بعد الانفصال عن القاعدة والدولة الإسلامية.
وعلى خلاف تلك الحركتين، فإن قائد هيئة تحرير الشام يحاول تمرير خطاب يرتكز على قراءة واقعية لموازين القوى في المنطقة، وعلى نوع من البراغماتية التي تقطع مع التمثلات الجيوسياسية للقاعدة، والدولة الإسلامية ذات الطبيعة الأممية. إن غايته العمل على إسقاط نظام بشار الأسد دون تدمير ما تبقى من مؤسسات الدولة؛ وهو ما يثير التساؤل عما إذا كان الأمر يتعلق بخطاب تكتيكي يخفي المرامي الحقيقية لهذه الحركة، أم أنه فعلا استفاد من دروس الماضي. ومن ثم، يحاول تجنب الأخطاء التي وقعت فيها القاعدة وحركة “داعش”؛ ذلك ما ستبرزه الأيام المقبلة.
على صعيد آخر، فإن لجوء الرئيس السابق بشار الأسد إلى روسيا، إذا كان يضع حدا لأسرة الأسد التي حكمت سوريا بيد من حديد لمدة أربع وخمسين سنة، فإنه يطرح عددا من التساؤلات المرتبطة بالمستقبل السياسي للبلاد والتغيرات الجيو سياسية المحتملة في المنطقة.
لا ريب في أن هذا الحدث لا يمثل سقوط نظام فقط؛ بل أكثر من ذلك، فهو يجسد هزيمة واضحة لما كان يسمى بمحور المقاومة، الذي قادته إيران. فعلى كثير من الواجهات، فهي تفقد حليفا كان يمثل حلقة وصل أساسية في استراتيجيتها التوسعية في الشرق الأوسط. وتبعا لذلك، فهي مضطرة إلى مراجعة استراتيجيتها السابقة، وربما التفكير، إذا كانت لديها الإمكانيات الفعلية، في اكتساب الأسلحة النووية التي وحدها ستمكنها من تسييج إقليمها في مواجهة التهديدات الإسرائيلية والغربية أو التوصل إلى اتفاق حول برنامجها النووي يمكنها من رفع العقوبات المفروضة عليها. في السياق نفسه، برز واضحا أن روسيا لم تعد قادرة بفعل حربها ضد أوكرانيا، على المحاربة في جبهة ثانية؛ وبالتالي حماية أحد أبرز حلفائها في الشرق الأوسط. ويبدو أنها اضطرت إلى القبول بالأمر الواقع، مقابل ضمان انتقال سلس يسمح لها بالمحافظة على وجودها من خلال قواعدها العسكرية، ولا سيما القاعدة البحرية في طرطوس.
مقابل تراجع إيران وروسيا، فإن هذا الحدث قد ينظر إليه كانتصار لتركيا من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى لاعتبارات متباينة. فبالنسبة للأولى، فعلاوة على إضعاف إيران زعيمة المحور الشيعي فإن هذا التحول السياسي في سوريا قد يمكنها من إضعاف الأكراد الذين يسيطرون على الشمال الشرقي لسوريا، ووضع اليد على مناطق أخرى في شمال سوريا، وكذا ترحيل آلاف النازحين السوريين إلى بلدهم، بعدما أصبحوا مصدر قلق بسبب تنامي مظاهر العداء داخل المجتمع التركي، الذي يحملهم جزئيا مسؤولية الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها تركيا.
ومن الواضح أن عودة النازحين السوريين إلى بلدهم ستكون من الملفات الحارقة التي سيواجهها النظام الجديد في سوريا، أخذا بعين الاعتبار الوضعية الصعبة التي تعيشها البلاد بسبب تداعيات الحرب الأهلية.
بالنسبة لإسرائيل، فمن الواضح أنها ساهمت بشكل واضح في إضعاف نظام بشار الأسد من خلال غاراتها التي أفضت إلى مقتل عدد من الضباط الإيرانيين الكبار الذين كانوا يؤطرون الجيش السوري، وكذلك من خلال ضرب لوجستيك حزب الله؛ الأمر الذي أرغمه على سحب رجاله من سوريا للعودة إلى لبنان.
في ظل الوضعية الجديدة، فهي تسعى إلى تكريس وجودها من خلال توسيع ما يسمى بالمنطقة العازلة لضمان ما تسميه بأمن سكانها في منطقة الجولان، إسوة بما فعلته مع الجنوب اللبناني، وفي الوقت نفسه العمل بشكل استباقي على تدمير ترسانات الأسلحة الكيميائية حتى لا تسقط في أيدي رجال النظام الجديد.
وبصفة عامة، لا يمكن عزل ما يقع، ولو بشكل غير مباشر عن الارتدادات الناجمة عما وقع في 7 أكتوبر من السنة الماضية؛ فإسرائيل ماضية في إعادة صياغة النظام الشرق أوسطي بشكل يجعلها تبرز، وكأنها الفاعل الأوحد، في غياب الشرعية الدولية، وتفتت ما كان يعرف بمحور المقاومة.
صفوة القول، إذا كانت سوريا قد تخلصت من معاناة نظام بشار الأسد، فإن لحظة النشوة والفرح لا يمكن أن تنسينا، على غرار ما وقع في دول أخرى كالعراق وليبيا، أننا أمام لحظة حبلي بالتساؤلات حول طبيعة وسلوك القيادة الجديدة، وعما إذا كانت ستسهم في بناء دولة مفتوحة لجميع الطوائف، يوجهها القانون والمؤسسات وقيم التسامح والاعتدال، أم أنها ستحول سوريا من جديد إلى قلعة للقوى الظلامية المعادية للديمقراطية والتحرر؟ ذلك ما ستكشف عنه التطورات المقبلة.
0 تعليق