قالت إدارة العمليات العسكرية لمعركة “ردع العدوان” إن قواتها دخلت العاصمة السورية دمشق، وأعلنت: “مدينة دمشق حرة من الطاغية بشار الأسد، وذلك بعد 50 عامًا من القهر تحت حكم البعث، و13 عامًا من الإجرام والطغيان والتهجير. وبعد كفاح ونضال طويل ومواجهة كافة أشكال قوى الاحتلال، نعلن اليوم، في 8-12-2024، نهاية هذه الحقبة المظلمة وبداية عهد جديد لسوريا”.
لسنا في حاجة إلى التذكير بالوضع المأساوي للشعب السوري الذي طال خمسة عقود من الطغيان والجبروت، و”مقاومة” كل أشكال ومحاولات التجديد والإصلاح والتغيير التي تقدم بها مثقفو وسياسيو وإعلاميو هذا القطر العربي الشقيق، سلميًا تارة وبقدر كبير من التضحيات الجسام تارة أخرى، بقصد بلورة سوريا الغد، حيث الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وسيادة قيم المساواة والسلم والكرامة الإنسانية. كما أننا لسنا في حاجة إلى الإشارة إلى أن نهاية النظام السوري وإسقاط بشار الأسد، رمز الحكم الفردي والتنكيل بالشعب ورميه في أتون المجهول/المعلوم، هي نهاية كل زعيم عربي عاث في الأرض فسادًا واستبدادًا، والحبل على الجرار.
بل نحن العرب – المسلمين معنيون الآن، أكثر من أي وقت مضى، بأن نمنح السيادة للشعب ليقرر مصيره ويدبر شؤونه المجتمعية، طبقًا للمنظومة الديمقراطية المتعارف عليها أمميًا، من انتخابات حرة ونزيهة تخوضها هيئات حزبية وطنية تؤمن بتداول السلطة والفصل بين السلطات واستقلال الإعلام. وسأقتصر على ما سبق أن عبّرت عنه في مستهل ما سُمي بالربيع العربي سنة 2011، لأن النظام السياسي العربي لا يتعلم من درس الشعوب، ولا يدرك منطق وجوهر الانتفاضات والثورات إلا بعد فوات الأوان.
وأنا أتصفح بعض المقالات التي خصصتها لاستقراء ظاهرة الحراك الشعبي العربي، الذي انطلق مع الثورة التونسية ليشمل العديد من “الأنظمة” المتجاوزة منتهية الصلاحية، أفاجأ بمقالة صحفية كتبت في يوم اندلاع الثورة الليبية المظفرة (17-02-2011). ولأهميتها التاريخية والرمزية، ارتأيت إعادة نشرها مع بعض التحويرات التقنية!
يعيش العالم العربي راهنًا وضعًا سياسيًا غير مسبوق بكل المقاييس. فبعد أن أجمع كبار المعنيين بقضايا الأمة العربية على تكلّس الشارع واستكانة المواطنين واستسلامهم للأمر الواقع، انطلاقًا من “إيمانهم” بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، بل إن البعض الآخر أقرّ بوفاة العرب ولم يتبقَّ سوى “الإعلان” عن هذا الموت، على إثر ما عايشته المجتمعات العربية من هزائم وويلات عسكرية وحضارية، تململ الجسد من جديد، ممثلًا في شباب عاش ثورة معلوماتية واختبر بنجاح تقنيات التواصل الاجتماعي الافتراضي، أملًا في رؤية الضوء في نهاية النفق العربي المظلم. خاصة وأن المؤسسات العربية الرسمية حققت نجاحًا باهرًا في حرمان المواطن العربي من أبسط حقوق المواطنة، وجعلته يئن تحت وطأة الإقصاء والتهميش والفقر المادي والمعنوي، مما حدا به إلى ركوب قوارب الموت وما بعد “الموت” عسى أن يعثر على قدر يسير من الكرامة.
لم يعد ولن يعود الشباب العربي للاستماع إلى الأسطوانة المشروخة: “لا شيء يعلو فوق صوت المعركة”، أو “تأجيل الانتقال إلى البناء الديمقراطي إلى حين تصفية القضايا القومية الكبرى”. إن الشباب العربي الراهن عقد العزم على وضع حد للأصولية الدولتية، وتغوّل الأنظمة الحاكمة، وعلى مواجهة أنماط سياسية مهترئة وزعامات غارقة في أمراضها الفيزيائية والماورائية، كانت سببًا محوريًا في تفاقم الاحتقانات الداخلية والخارجية، ونشر النعرات العرقية والدينية والفوارق الاجتماعية المدوية، وتعميق بؤر الفساد ونهب الثروات.
لم تعد الغاية الأسمى للفاعلين السياسيين من شباب ومثقفين وأصحاب الضمائر الحية هي تغيير مسؤول بمسؤول آخر، مهما علا أو دنا شأنه. لقد أضحى ديدن هؤلاء هو إقامة أنظمة سياسية ذات مصداقية، مؤمنة بالمواثيق والقيم الإنسانية المتعارف عليها دوليًا. إنه من أوجب الواجبات في هذه المرحلة التاريخية المباركة غرس نظام سياسي (ملكي – رئاسي – جمهوري) مستند إلى دستور حداثي تشارك في صياغته كل الأطراف المنضوية داخل المجتمع، ودون إقصاء أو استئصال، وفي سياق استفتاء شعبي حر ونزيه لوضع حد لظاهرة الدساتير الممنوحة والمفروضة على رقاب الشعوب المضطهدة.
وأن يكون هناك فصل بالفعل، وليس بالقوة، بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والعمل الجاد من أجل تحقيق مطلب طالما حُرم منه المواطن العربي، ألا وهو الإعلام الورقي والإلكتروني المستقل، للمساهمة في تنظيف الممارسة السياسية العربية من مظاهر التزلف وصوغ قصائد المدح للزعيم “القائد المبجل المفدى”. وهكذا، لا يمكن البتة والمطلق أن نلحق بركب الدول المتقدمة إلا بالقطع مع أساليب الحكم البائدة: أساليب الغطرسة والاستبداد والفساد بكل أصنافه.
وأوضح الطرق المؤدية إلى هذا المبتغى إنجاز إصلاحات بنيوية، صادقة وفعالة. دون ذلك، ستكون ثورات تونس ومصر وليبيا المباركة بداية سقوط أحجار الدومينو.
وقد أعلنها صيحة مدوية منذ (1992) منظر العقلانية العربية، المرحوم الفيلسوف محمد عابد الجابري، في كتابه “وجهة نظر”، حينما قال: “إن الديمقراطية في الوطن العربي، هي اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ضرورة لا من أجل التقدم وحسب، بل من أجل الحفاظ على الوجود العربي ذاته”. فهل نحن مستعدون للتضحية بالغالي والنفيس من أجل الدفاع عن الوجود العربي وكينونته؟ هل نحن قادرون على تقرير مصيرنا والمضي قدمًا نحو إرساء دولة الحق والقانون؟ هل نحن متأهبون لزرع بذور الوحدة والتضامن والعدل والحرية؟
لعل الدماء الزكية لشباب تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا.. وغيرها من الدول العربية، من شأنها أن تعلن عودة العرب مجددًا إلى مسرح التاريخ، وأن تشرق شمسهم بعد ظلام حالك السواد.
0 تعليق