ما الفلسفة ومن هو الفيلسوف؟ - ترند نيوز

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

ادعاءٌ يتسِع وفِكرٌ يتراجَع

تقديم:

يتساءل المرء اليوم، وهو يتابع أنشطة ثقافية وفنية وبرامج حوارية في تلفزيونات مختلفة، عمّن هو الفيلسوف وما هي الفلسفة وما وظائفها وأدوارها. يفرض هذا التساؤل نفسه من تكاثر الذين ينعتهم صحافيون ومنشطو برامج إعلامية ومقدمو أخبار بالفلاسفة دون تردد ودون بحث ولا تمحيص. فقد بدأت هذه التحولات في التعامل مع الفلسفة تزاحم في انتشارها، ما عرفته الفلسفة من افتراء على طبيعة خصائصها كتفكير، وعلى مميزات الفيلسوف كمفكر من طينة خاصة، يتميز اشتغاله الفكري بتركيبيةٍ فريدة، وبتحليلٍ ونقدٍ يلتصق عميقاً بالقيم الكبرى الإنسانية النبيلة، وبنزوعٍ فريد نحو قلقِ التّساؤل ومتعته، في تقاطعاته مع الثابت والمتحول في وجود الإنسان المفكر والمبدع، وفي ارتباط وثيق بأعمق نتائج العلوم وتطورات العلم ونقده.

لعل لعهد الميديوكراسيا، الذي يجتاح العالم، علاقة بما ذكرناه أعلاه. فالتركيبة الجديدة لسلطات توجيه الجماهير والرأي العام، ولمفاهيم ودلالات النجاح والمعرفة والرقي والمواطنة والحرية والجمال إلخ، أصبح قلبُها النابض هو التكنولوجيات الدقيقة. بلغت هذه التحولات في عهد الميديوكراسيا اليوم قمتها مع تزاوج المال والأعمال بـ”إقطاعية الرقمي” (أيلول)، وليبرالية تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي. ومهما كان الأمر، فإن سؤال الفلسفة والفيلسوف يظل في قلب التخوف من مستقبل يرْكبُ حصان تسارعٍ غيرِ مسبوق في تطوره الجامح، فلا مندوحة، فيما يبدو، للإنسان المعاصر من البعد الفلسفي في تفكيره الاستراتيجي، لإدراك شمولية التحول وكلية الرهانات واستيعابها، وبالتالي احتواء ولو جزء من آثارها السلبية.

هذا الحوار يعود إلى أبجديات التعريف، مع وعي كامل بسلبيات التبسيط، فالفلسفة أصلاً تفكير يضاد المعرفة العامية والسذاجة والافتعال الذي غالباً ما يقود إلى التضليل.

لتوضيح هذا الأمر بطريقة قد تفيد أكثر، نقترح هنا حواراً بين “مواطن” و”أستاذ الفلسفة”، يساعد على إلقاء بعض الضوء على تحولاتٍ غير مسبوقةٍ في تعريف الفلسفة والفيلسوف. إنه حوار “مواطن” يلجأ لأستاذٍ لعجزه عن استخلاص فكرة واضحة عن الفيلسوف والفلسفة، انطلاقاً من الاستسهال والخلط المنتشر في الإعلام وفي فضاءات الأنشطة الثقافية والفنية.

————————-

“مواطن”:

أستاذ، هلا ساعدتني في فهم ما يروج عن الفلسفة والفيلسوف، فقد أصبح لقب “فيلسوف” يطلق على الكثيرين ممن يدرِّسون الفلسفة أو يكتبون عنها، أو يترجمون نصوصاً فلسفية أو يمارسون تفلسفاً معروفة “حِكمُه” عموماً، فما هو الفيلسوف في رأيك؟ وما هي الفلسفة بالضبط؟

“أستاذ الفلسفة”:

سؤال مهم جداً. تقليدياً، الفيلسوف هو مفكر في حقل الفلسفة؛ فهو شخص قادر على تطوير نظرية ثلاثية في الميتافيزيقا (أي فهمه لجوهر الوجود والواقع)، وفي نظرية المعرفة (أي كيفية معرفتنا بالحقائق)، وفي الجماليات والقيم عموماً (أي تفسيره للجمال والفن). هذا هو التعريف الكلاسيكي الذي كان يُعتبر معياراً لوجود الفلسفة والفيلسوف. فالفلسفة ليست مجرد إبداء آراء أو كتابة أفكار، ولو كانت متناسقة، بل هي عملية معقدة من التحليل والتفسير والنقد والتركيب، تتطلب نظرة عميقة في مسائل الوجود والمعرفة والجمال، في توظيف ممنهج ومتسق لنتائج العلوم والفكر الإنساني عموماً، وفقاً لخصائص التفكير الفلسفي الكلاسيكية التي لا تبلى، وهي خصائص ضد التبسيطية والسذاجة والمعرفة العامية وتكلس المعرفة والعادة إلخ.

“مواطن”:

لكن في الوقت الحالي، يبدو أن الكثير من الناس يعتبرون أي شخص يُعبر عن أفكار جديدة أو يكتب حول موضوعات معينة في مجال المعرفة والعلم والفكر “فيلسوفاً”. هل تعتقد أن هذا التوسع في تعريف الفيلسوف منطقي، أم أن الفلسفة يجب أن تبقى مرتبطة بمعايير أكثر صرامة؟

“أستاذ الفلسفة”:

أعتقد أن معايير الفلسفة الكلاسيكية لا تزال وستبقى ذات قيمة، على الأقل كمحددات منهجية لنمط التفكير الفلسفي. بل قد يكون من المفيد إضافة بعض المجالات الجديدة في الفلسفة لتواكب التغيرات الراهنة في العالم. على سبيل المثال، قضايا مثل التغير المناخي ورهانات التكنولوجيات الجديدة والدقيقة على مستقبل الإنسان وحقوق الإنسان التي أصبحت مركزية في الفلسفة المعاصرة. وفي سياق هذا التغيير، لا بد من توسيع الفلسفة لتشمل التحديات الجديدة التي يطرحها الذكاء الاصطناعي ومستقبل البشرية.

“مواطن”:

آه الذكاء الاصطناعي؟ هل يمكن للفلسفة أن تساعدنا في فهم أبعاد الذكاء الاصطناعي وآثاره على الأسرة والمجتمع مثلاً وعلى السلم والتقدم؟ ألاحظ أنه جد عملي في الحروب والتزوير واختراق أنظمة الأمن، فكيف يمكن التعامل مع الذكاء الاصطناعي من منظور فلسفي نقدي؟

“أستاذ الفلسفة”:

يمثل الذكاء الاصطناعي اليوم أهم التحديات الكبرى التي تواجه الإنسانية. إنه سلاح ذو حدين؛ بحيث يمكن للإنسان أن يجعل منه أداة تُسرِّعُ التقدم البشري أو العكس، سلاحاً لهدم كل ما تم بناؤه طيلة عقود. فالتكنولوجيا التي تقف وراء الذكاء الاصطناعي يمكن أن تُحسن قدرتنا على المعالجة الحسابية وتوسيع إمكانيات الإبداع، بل وربما تحل مشاكل معقدة مثل مشاكل الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية. لكن، يجب أن نكون حذرين من مخاطره؛ فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يؤدي إلى فقدان السيطرة البشرية على التكنولوجيا، كما أنه يطرح تساؤلات بشأن قيم ومبادئ مثل حقوق الإنسان، والعدالة، والمساواة، والحرية.

“مواطن”:

أفهم من كلامك، أستاذ، أن الفلسفة يمكن أن تكون أداة لتوجيه استخدام هذه التكنولوجيا بشكل آمن؟ فهل يمكن للفلسفة تحديد خطوط حمراء لإنتاج ولاستعمالات الذكاء الاصطناعي؟

“أستاذ الفلسفة”:

أعتقد ذلك، فالفلسفة تمنحنا أدوات التفكير التحليلي والنقدي لفحص التوجهات الأخلاقية للذكاء الاصطناعي. الفلسفة هي فكر السؤال التركيبي والإشكالي، الذي لا يسعى للمعرفة فقط، بل لأبعاد الموضوعات والظواهر ولاستمراريتها وأشكال هذا الاستمرار، لذلك نقول إن الفلسفة تساعد في طرح أسئلة حيوية حول التقدم التكنولوجي عموماً والذكاء الاصطناعي ضمنه، من قبيل: كيف يمكن ضمان اشتغال الذكاء الاصطناعي لصالح الإنسانية دون تهديد لها في حقوق الأفراد والجماعات مثلاً؟ كيف نحمي الحريات العامة والمساواة والعدالة في عالم تزداد فيه سيطرة الآلات على القرارات، وتفرض الخوارزميات نتائج إحصاءاتها دون بعد إنساني ووجداني واعٍ ومرن مع السياقات؟
يمكن هنا تصور الفلسفة حارساً أخلاقياً وجمالياً وحقوقياً، باستطاعته تقديم صيغٍ تُحافظ على قيم الإنسانية الكونية المشتركة بين كل الثقافات والأمم.

“مواطن”:

لكن أستاذ، يقلقني بل يخيفني أن هذه التكنولوجيا تتحول وتتطور وفقاً لتسارع مذهل، لا يترك وقتاً، حسب ما قرأت ورأيت، للتفكير فيه وللسيطرة عليه، فكيف للفلسفة وحدها تحديد معايير ثابتة في عالم سريع التحولات والتطور؟

“أستاذ الفلسفة”:

كلامك صحيح، فالعالم يتعامل اليوم مع ظاهرة في تطور لا يتوقف وبتسارع وليس بسرعة فقط. ليس على الفلسفة وحدها القيام بما ذكرته، فلربما على العلوم القانونية والإدارية والسياسية والأخلاقية التصدي لهذا التسارع التكنولوجي الهائل وضمنه، بل وفي قلبه الذكاء الاصطناعي. يجب أن تكون الفلسفة، في هذه الحالة، حريصة وحذرة، تنحصر مهمتها في فتح آفاق للتفكير بشكل شمولي وتركيبي، يحلل وينتقد ويفتح آفاقاً لربما وحدها الفلسفة قادرة على فتحها. تقوم الفلسفة بذلك عن طريق قدرتها على تركيب التاريخ بالثقافة، والاقتصاد بالسياسة، والتكنولوجيا بالسوسيولوجيا وبعلم النفس، والفن بالعلم إلخ. لا يمكننا انتظار توقف تطور التكنولوجيا لبدء التفكير فيها. علينا أن نكون مستعدين لإعادة النظر باستمرار في كل الانعكاسات التي تطرأ نتيجة للتغيرات المجتمعية بسبب تطورات التكنولوجيات الدقيقة. نحن بحاجة إلى معايير قانونية وأخلاقية وجمالية (لا معنى هنا للجمال دون حرية وعدالة وخير وحق)، مرِنة تُراعي تطور التكنولوجيا مع ضمان أن تظل حقوق الإنسان وكرامته في صدارة الأولويات. الفلسفة هنا لا تقتصر فقط على التفكير النظري، بل أيضًا على توفير أدوات عملية لفهم التحديات في الوقت الراهن، بتعاون طبعاً مع تخصصات وأدوات فعل أخرى في المجتمع الإنساني.

“مواطن”:

أفهم منك أستاذ أن الفلسفة اليوم تواجه تحديات جديدة، مثل غزو الذكاء الاصطناعي للعديد من مجالات حياتنا، سواء على المستوى الفردي أو على المستوى المجتمعي، والأهم على الإطلاق هو مستوى صنع القرارات الاستراتيجية والجيوسياسية. كيف يمكننا، برأيك، الحفاظ على القيم الإنسانية في مواجهة هذا الصبيب التكنولوجي الهائل؟

“أستاذ الفلسفة”:

لا يغير الذكاء الاصطناعي حياتنا اليومية فحسب، بل إنه يغير طريقة اتخاذ القرارات الكبرى على مستوى العالم. لذا فإن الحفاظ على القيم الإنسانية يتطلب منا توجيه هذا التقدم التكنولوجي نحو تعزيز التعاون، السلام، والعدالة. إذا تم استخدام هذه التكنولوجيا بشكل غير أخلاقي أو مفرط الأنانية، فإنها قد تُفاقم الفوارق الاجتماعية وتزيد من التوترات الجيوسياسية، ولعل هذا ما يحدث اليوم إذا نظرنا مثلاً إلى بؤر التوتر الكبرى في أوروبا (روسيا والغرب ممثلاً في أوكرانيا حيث الحرب التكنولوجية بالغة مداها)، والشرق الأوسط (فظاعة ما يحدث بتوظيف الذكاء الاصطناعي في غزة وجنوب لبنان)، وآسيا (السباق المحموم تكنولوجيا وعسكرياً بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان تايوان) إلخ. من هنا، تأتي أهمية الفلسفة في تقديم إطار نقدي يوجه هذا التطور، ويضمن ألا يُسمح للتكنولوجيا أن تهيمن على الإنسانية.

“مواطن”:

أدرك أستاذ من حديثك، الذي أتمنى أن نستعيده مرة أخرى، أن الفيلسوف والفلسفة ضرورة وليس بذخاً كما يبدو للكثيرين؟

“أستاذ الفلسفة”:

بالطبع، الفلسفة ضرورة، والفيلسوف لا يظهر إلا في بيئة سليمة وخصبة تفتح آفاق حرية التفكير والمعرفة والتقصي والبحث الرصين. إن الفلاسفة تاريخياً عملة نادرة لا يمكن تفريخهم بنظام تعليمي ولا علمي فقط، إنهم كالمبدعين الكبار قد يختفون لقرون من مجتمع معين كما يخبرنا التاريخ. أنا سعيد جداً بهذا الحوار، وأتمنى أن نستمر في هذه المناقشات، لأنها تساهم في تطوير فهمنا لهذه القضايا المعقدة.

إن الفلسفة، في نهاية المطاف، ليست حكراً على المفكرين الأكاديميين الذين ليسوا بالضرورة فلاسفة كما سبق الذكر، بل هي أيضًا أداة تفكير بقواعد معينة، يمكن أن تساهم في تشكيل المستقبل الذي نريد العيش فيه نحن والأجيال المقبلة.

“مواطن”:

بالطبع، أتمنى أن نواصل هذه المناقشات في المستقبل. شكرًا لك مرة أخرى، أستاذ.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق