ولج السلك الدبلوماسي وعمره لا يتجاوز 22 سنة، ومن مديرية الشؤون القانونية بوزارة الشؤون الخارجية بالرباط حمل حقيبته الدبلوماسية إلى 4 بلدان أجنبية؛ بدأً من العراق مروراً بالنرويج ثم سوريا قبل أن ينهي مشواره الممتد على مدى 45 عاماً بالأراضي المنخفضة سفيراً للمغرب، مع مسؤوليات أخرى تخللت هذا المشوار.
هو عبد الوهاب بلوقي، دبلوماسي مغربي ولد بمدينة الحسيمة عام 1954؛ وبعد أن عايش حصار العراق وتداول في ملف الأسلحة الكيميائية بسوريا وساهم في إقناع حكومة الأراضي المنخفضة بمبادرة الحكم الذاتي المغربية في الصحراء، يحمل اليوم رسالة للدبلوماسيين الشباب تدعوهم إلى الوعي بحساسية المهنة وثقل مسؤولية تمثيل بلد بحجم المغرب.
هسبريس التقت بالسفير المغربي على هامش الدورة الثالثة عشرة من المهرجان الدولي للسينما والذاكرة المشتركة التي شارك في ندوتها الافتتاحية، وقاربت موضوع الدبلوماسية الموازية والذكاء الاصطناعي، وأنجزت الحوار الآتي، حيث سيفصل في محطات من مساره الأكاديمي والمهني.
نص الحوار:
بداية، هل بإمكانك أن تحدّثنا بعض الشيء عن مسارك الدراسي؟
ولدت بالحسيمة في 18 نونبر 1954، ويتزامن عيد ميلادي مع عيد الاستقلال. درست السلك الابتدائي بمدرسة محمد الخامس التي أصبحت الآن تسمى مجموعة مدارس محمد الخامس، ثم انتقلت إلى ثانوية أبي يعقوب الباديسي حيث حصلت على الباكالوريا سنة 1973، وتوجهت إلى الرباط لأحصل على الإجازة في القانون الخاص سنة 1976 من جامعة محمد الخامس.
كيف ولجت إلى السلك الدبلوماسي؟
خلال أكتوبر من سنة حصولي على شهادة الإجازة التحقت بوزارة الشؤون الخارجية في إطار الخدمة المدنية آنذاك.
الحقيقة أنه كان عندي أمل أن أستكمل مساري الدراسي في الدراسات العليا غير أنني بقيت في وزارة الخارجية بمديرية الشؤون القانونية والمعاهدات حتى 1 غشت 1979، حيث التحقت بجنيف للاشتغال في البعثة الدائمة للمملكة المغربية لدى مكتب الأمم المتحدة بأوروبا.
وفي شتنبر 1985 رجعت للوزارة وعينت رئيسا لمصلحة المنازعات والدراسات القانونية، وكانت حقيقة تجربة مهمة جدا، وفي 1989 تم تعييني مستشارا في البعثة المغربية الدائمة لدى هيئة الأمم المتحدة بنيويورك، مكلفا بالشؤون القانونية في إطار اللجنة القانونية (اللجنة السادسة) ضمن اللجان الست للأمم المتحدة.
خلال هذه الفترة كانت هناك حقبة تعلمت فيها كثيرا، وهي حين كان المغرب عضوا في مجلس الأمن سنتي 1992 و1993، وكان حينها ملف العراق مطروحا بقوة بقرارات مجلس الأمن والعقوبات على بغداد. كان عملا مضنيا وكنت حريصا على تطبيق التعليمات التي تأتي من الرباط من الإدارة المركزية، كما تعمقت في هذا الملف كثيرا.
متى عُيّنت أول مرة سفيراً؟
في نونبر سنة 1996 ارتأى السيد الوزير عبد اللطيف الفلالي رحمه الله تعييني سفيرا للمغرب، وهو أول تعيين لي كسفير إلى غاية يونيو 1999 لأعود من جديد إلى وزارة الخارجية.
وأذكر أن فترة عملي بالعراق كانت صعبة للغاية بفعل الحصار المفروض آنذاك على البلد والعقوبات المطبقة عليه، وغياب النقل الجوي، بحيث كنا نضطر لقطع ألف كيلومتر نحو عمان بالسيارة من أجل شراء المؤونة واحتياجات العيش، فكانت فترة عصيبة حقيقة. غير أن الدبلوماسي لا يعاني مثلما عانى أبناء البلد في تلك الفترة.
وأستحضر هنا أنه في وقت كان يُمنع على الطائرات دخول العراق، إلا الخاصة بالمساعدات الإنسانية وبموافقة من مجلس الأمن، عمل المغاربة على دعم العراقيين بثلاث طائرات تحمل المساعدات الإنسانية، كالأدوية والمواد الغذائية، وحظيت باستقبال رائع من طرف السلطات العراقية والمجتمع المدني العراقي، خاصة أنه لم يكن من السهل وصول هذه المساعدات في تلك الظرفية.
بعد ذلك عدت إلى الوزارة فأصبحت رئيسا لديوان وزير الخارجية آنذاك محمد بن عيسى، إلى غاية 2001 حين تم تعييني سفيراً للمغرب بالنرويج، وهو بلد بارد ومستقر وغني جداً.
وعام 2004 عُينت سفيراً في دمشق. ونعرف أن سوريا بلد غني بثقافته وتراثه وكرم أهله، كما أن المغرب يحظى باحترام كبير جدا هناك، خاصة أنه شارك في حرب أكتوبر 1973، وكنات مشاركته في المستوى. وكان السوريون حين يتحدثون معي يتذكرون الشجاعة والإرادة التي كانت لدى الجيوش المغربية للدفاع عن التراب السوري.
أذكر أنني حين وصلت إلى دمشق زرت مقبرة الشهداء المغارب بسوريا للترحم عليهم، حيث حظيت باستقبال بحضور ضباط شاركوا في هذه الحرب وحكوا لي بدورهم عن شجاعة المغاربة.
وفي نهاية 2008 عدت كمدير للتشريفات بوزارة الخارجية لمدة ست سنوات إلى غاية 2013، حين عينت سفيراً بهولندا إلى غاية دجنبر 2021، لأعود إلى المغرب في يناير 2022 مع أول طائرة سُمح لها بالطيران إلى المغرب بعد الإغلاق الذي تسببت فيه جائحة كورونا.
نعرف أن مجال العمل الدبلوماسي حساس وأي خطأ قد يسبب أزمة.. ما هي الصعوبات التي واجهتها طيلة هذا المسار؟
أولا للنجاح في المجال الدبلوماسي يجب أن يكون هناك شغف بهذه المهنة ويكون الدبلوماسي واعياً بأنه يمارس مهنة حساسة جداً وتتطلب الحيطة والحذر في تصرفاته وكلامه وتحركاته؛ فبالإضافة إلى القوانين التي تضبطها هناك أيضا أعراف ومُثُل وتلميحات ولغة جسد، بحيث يمكن أن تقول كلمة واحدة وتكون لها عواقب وخيمة وتتسبب في أزمة، وكما يقال: “الحكيم يحرك لسانه سبع مرات قبل أن ينطق بكلمة”.
هل تستحضر مواقف في هذا الصدد؟
هي موجودة لكن لا يمكنني الحديث عنها.
في الكثير من المرات يمكن أن تسمع تهجماً من أحدهم في حفل أو ما شابه، وبعض الأحيان يكون السبب واهياً فيعتذر بعدها. الدبلوماسية في النهاية هي العلاقات الإنسانية التي تساهم في تطوير العلاقات السياسية بين البلدان.
ما هي المحطة التي يمكنك القول إنك واجهت فيها تحديات أكثر على المستوى الدبلوماسي؟
لم أواجه تحديات كبيرة، خاصة أن المغرب يحظى باحترام في الدول التي اشتغلت بها.
لأعيد طرح السؤال بصيغة أخرى.. ما هي المحطة التي كانت بها ملفات مطروحة أكثر؟
في هولندا، في فترة من الفترات، كانت قد اهتزت العلاقات مع المغرب بعض الشيء، وكانت وزارة الخارجية المغربية طلبت مني الدخول إلى المملكة للتشاور، وهو ما يعني تعبيراً عن الغضب. لكن حين توصلنا إلى تفاهمات مع الجانب الهولندي عدت إلى هناك، ما زاد من عملي لشرح الكثير من الأمور بهدوء وبطريقة حضارية وتكييف للعقلية مع طبيعة البلد الذي أشتغل فيه.
من بين الملفات التي من المعلوم أنك اشتغلت عليها ملف الوحدة الترابية للمغرب، ونعرف أن هولندا تؤيد حالياً مباردة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، وكان الإعلان عن ذلك رسمياً في فترة تواجدك بها. هل كان من الصعب إقناع الحكومة الهولندية بموقف المغرب؟
في الحقيقة هم أناس يهتمون بفهم التفاصيل المملة للملف والموقف المغربي، ويسألون دائما أسئلة كثيرة، لكنهم لم يقولوا أبداً إنهم ضد الموقف المغربي أو مع الأطراف الأخرى، فهم كانوا يتبنون موقف الاتحاد الأوروبي، وهو نوع من الحياد.
وأذكر هنا أنه حين كنت أشتغل على هذا الملف كنت أحرص على الاشتغال على الملفات التي تهمهم أيضاً، التي كانت تضمها جداول أعمال اللقاءات التي جمعتنا.
هل لمست في وقت من الأوقات استغلالاً سياسيا في هولندا للحراك الذي عرفه الريف سنة 2016؟
كان هناك بعض الأعضاء في البرلمان الهولندي يتبعون لأحزاب يسارية متطرفة حاولت استغلال هذا الموضوع من أجل الظهور على الساحة السياسية وإيهام الجالية المغربية بأنها تدافع عنها، في محاولة لاستقطابها واستهداف المغرب. لقد وجدوا ورقة سياسية أرادوا لعبها لأغراض سياسية، لكن هؤلاء يمثلون أقلية. ومع أننا كنا نتصدّى لكل من يستهدف المغرب فإن الحكومة الهولندية لم تكن تتبنى موقف هذه الأحزاب.
اشتغلت خلال فترة تواجدك بالأراضي المنخفضة على ما يتعلق بالجالية المقيمة هناك. هل هناك أي ملف ترى أنك لم تتوفق في حله أو لم يكن الوقت كافياً لإنهائه؟
الملفات المتعلقة بالجالية المغربية بهولندا هي ملفات دائمة وتحتاج مجهوداً تراكمياً، حيث عمل السفير الذي سبقني على جزء وأنا عملت على جزء، ثم الذي يأتي بعدي، وهكذا، لأن الأمور تتطور والمشاكل تتجدد والحكومات وانتظارات الجالية تختلف. لكن المسؤول الدبلوماسي في بلد ما عليه أن يكيف عمله مع هذا التطور، مع التأكيد على الدفاع عن حقوق المواطنين المغاربة في هولندا موازاة مع تذكيرهم بواجباتهم.
من بين هذه الملفات نجد ملف الممتلكات العقارية لمغاربة هولندا بالمغرب، وأنت كنت عبّرت عن موقف واضح للرباط في هذا الصدد برفض إطلاع الهولنديين على ممتلكات المغاربة ببلدهم. هذا الملف مازال مفتوحاً؟
هذا الملف طبعاً شائك وحساس وخطير. لكن ما كان يحصل هو أنه في بعض الأحيان كانت تظهر شائعات بقدوم هولنديين من أجل تتبع الممتلكات العقارية لمغاربة هولندا، ما يدفع بعضهم إلى بيع ممتلكاتهم، لكن في الأخير لا شيء من ذلك كان يقع.
ماذا تتوقع لهذا الملف مستقبلا؟
ما كان يزعجنا هو أن سفارة هولندا بالرباط كانت تبعث موظفيها ليتجولوا في المغرب ويطرقون الأبواب ويلتقطون الصور ويتصلون بالسلطات المحلية لطرح أسئلة. لكن المغرب لديه سيادة ومستقل، وقلنا “أش هادشي؟ هادشي ماكيدارش”. سجلنا موقفاً قوياً في هذا الشأن وقلنا هل ستسمح هولندا للمغاربة بالقيام بالأمر نفسه على أراضيها؟.
بعد ذلك كانت شُكلت لجينة ثنائية لتولي هذا الملف لكنها إلى حد الآن غير مفعلة. لكن يبقى الملف مطروحاً بقوة والمغرب سوف لن يساوم على حقوق المغاربة الذين يعيشون فوق تراب هولندا، ومستحيل أن يتخلى عنهم، وأي شيء يتم إقراره في هذا الشأن يجب أن يحترم الحقوق المشروعة للمغاربة.
ماذا عن ملف إعادة المهاجرين الذين رُفضت طلبات لجوئهم، خاصة أن فان دير بورغ، وزير الدولة المكلف بالعدل والأمن المنتهية ولايته، كان صرّح بأن السلطات الهولندية قامت بترحيل نحو 250 مغربياً إلى بلادهم سنة 2023؟
أنا الآن لا أعرف طبيعة التفاهم بين البلدين في هذا الملف، لكن إذا أخذناه بتجرد فإن أي إنسان دخل بطريقة غير شرعية إلى بلاد ما عليه أن يستعد لتدخل القانون ضد هذا العمل، وهو الأمر نفسه الذي يحدث في المغرب.
طبعاً هذه أمور فيها حساسيات وأبعاد إنسانية رهيبة، خاصة حين يتعلق الأمر بمهاجر جاء ليشتغل ويتنقل بين المنزل ومكان العمل دون إحداث مشاكل ويعيل أسرته ويساهم في المجتمع الهولندي بطريقة إيجابية، إذ نأسف لتوقيفه وترحيله فقط لأنه لا يتوفر على وثائق الإقامة. لكنها تبقى أمور إنسانية لا تدخل في الحسبان حين يتعلق الأمر بتطبيق القانون إلا قليلا.
المشكل في هولندا بخلاف الدول الأخرى هو أن قرار الترحيل هو قرار إداري وليس قضائي، بحيث في حالة تم اتخاذ قرار الترحيل لا يمكن تعيين محام للتراجع عنه، بل يطلب منك أن تعين محامياً في بلدك بعد الترحيل.
حدّثنا قليلا عن المسؤولية التي توليتها على رأس المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية؟
بالإضافة إلى منصبي كسفير لجلالة الملك بلاهاي رشحني المغرب سنة 2017 لرئاسة مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، الذي يضم 190 بلداً، كمرشح ينتمي إلى المجموعة الإفريقية التي كان دورها آنذاك ترؤس المؤتمر، فتم قبول هذا الترشيح بالإجماع من طرف المجموعة. وأعتبر أن تجربة الرئاسة كانت موفقة رغم الملفات التي كانت مطروحة آنذاك، كملف المجموعة الغربية وروسيا وسوريا وفنزويلا وبعض البلدان التي كانت لها مقاربة خاصة لتنفيذ الاتفاقية.
وفي سنة 2021 عينت رئيساً للمجلس التنفيذي للمنظمة الذي يضم 41 عضواً، وينفذ قرارات المؤتمر، وكانت دورة إفريقيا أيضاً، وأعتبر أنها كانت تجربة مهمة جداً وأحسبها ناجحة.
سنة 2022 تم توشيحك من قبل العاهل الهولندي بوسام فارس الصليب الأكبر. كيف تلقيت هذا التوشيح وماذا يمثل لك؟
في الحقيقة سعدت بهذا التوشيح، لاسيما أن العاهل الهولندي قال كلمات طيبة في حقي قبل تسليمي هذا الوسام، مشيداً بالعمل الذي قمت به هناك. طبعاً هذا التوشيح كان في فترة جائحة كورونا بحيث تسلمته بحضور زوجتي ولم يكن هناك تصوير يوثق هذه اللحظة بسبب الإجراءات الصحية. أنا أجد في هذا التوشيح تكريما لبلادي طبعاً باعتباري سفيراً لجلالة الملك.
أذكر أنه حين سلمني الملك الهولندي الوسام ذكرني بزيارته إلى الحسيمة كولي للعهد، وكيف استقبله المغاربة وهو يتجول في شوارعها.
كلمة أخيرة..
الكلمة الأخيرة سأوجهها للدبلوماسيين الشباب الذين يجب أن يكونوا واعين بأنهم يمارسون مهنة لديها خاصية ومكانة مرموقة. دائما أقول لهم حين أقدم عروضاً في أكاديمية الدراسات الدبلوماسية بوزارة الشؤون الخارجية، التي أصبحت مؤخراً تسمى المعهد المغربي للتكوين والأبحاث والدراسات الدبلوماسية: يجب أن تتمتعوا بالنفس الطويل وتعوا أنكم حين تشتغلون في بلد ما فإنكم تمثلون بلدا غنياً بثقافته وحضارته وتاريخه وتراثه، لتشعروا بثقل المسؤولية، وحين تنطقون فإنكم تنطقون باسم المغرب، وعليه يجب أن تأخذوا جميع الاحتياطات والتدابير حتى لا تقعوا في فخ من طرف الخصوم. فالصبر ثم الصبر، وعوا أن الدبلوماسي لديه وضع خاص ومزايا وحصانات تُعطى من أجل تسهيل مهمته في ذلك البلد وليس ليكون فوق القانون.
0 تعليق