عرض وليد بركات:
في سالف العصر والأوان، هناك في قديم الزمان، ذهب شاب إلى الحكيم الفيلسوف وطلب منه أن يعلمه كيف ينسج قصصًا وحكايات.
أجابه الحكيم: “أحضر بعض الأوراق وانثر عليها حروفًا وكلمات، أفرغ عليها ما شئت من أفكار، وما وصل إليك من ترجمات للمشاعر بكل صنوفها. املأ أوراقك بالأحبار، عندها تمتلك الكتاب.”
ذهب الشاب ومرت السنون وعاد كهلًا يلوم الحكيم وألقى تحت قدميه عشرات الكتب والأوراق، وقال له: “لقد خدعتني وأضعت عمري هباءً؛ فلم يثنِ أحد على حروفي، وكل كتاباتي كانت كغثاء السيل. لم تترك أثرًا في نفس قارئ، ولم تُزح همَّ إنسان.”
تعجب منه الحكيم وقال: “لقد طلبت أن تعرف كيف تصنع كتابًا وعلمتك الصناعة والحرفة. أما ما تسأل عنه، فذلك يحتاج إلى ما لا تملك أن تتعلمه؛ فهو يولد وينمو مع الإنسان، هي الموهبة، وهو الإبداع.”
نعود إلى عصرنا وواقعنا، وقد وضعت دكتورة سحر الحسيني بين أيدينا وليدها ووريث فكرها، كتاب “ليس كل الخبز يشتهي.”
تحذير هام: هذا الكتاب لا يصلح لأصحاب القلوب القاسية.
هل تذكرون حكايات الأمهات، تلك الحكايات التي كانت تغرس جذورنا في عالم الفضيلة وتبهرنا بشخصيات تدخل عالم أحلامنا نتمنى أن نشبهها؟
تلك هي شخصيات روايات سحر الحسيني. هل يذكر أحدكم حكايات أمه أو جدته؟ هل ورد فيها لفظ غير لائق أو مشهد مشين؟
طبعًا لم يحدث.
وكذلك أتحدى أن يجد أحدكم سطرًا أو كلمة تناولتها مجموعة د. سحر الحسيني نخجل أن يقرأها أبناؤنا.
أسلوب ومنهج يرفض أن يقدم القيم والفضيلة على مائدة ملوثة رغبة في شهرة أو انتشار.
وهنا نقف على أولى درجات موهبة وإبداع الكاتبة، وهو أسلوبها وأبجديتها في جذب عقل القارئ من خلال الفكرة والموضوع أولًا، وثانيًا من خلال حروف وكلمات تخطف القلوب والعقول. فمن الطبيعي أن تجد نفسك أثناء قراءتك واقفًا عند جملة أو مقطع كامل لتعيد قراءته عشرات المرات حتى يدركه قلبك ويحفظه عقلك.
لا تندهش، فأنت في عالم سحر الحسيني!
لا أمتلك جرأة التحدث عن تفاصيل القصص أو شخصياتها حتى لا أفقد القارئ الاستمتاع بما نسجته الكاتبة من أفكار وشخصيات وتفاصيل حملها إبداع نزفته من وريد فكرها لتصيغ لنا روايات وحكايات ربما نستطيع بعد قراءتها إعادة ترتيب أولوياتنا في الحياة.
وهنا جوهر الإبداع وإجابة شافية لسؤال هام: لماذا تكتب الكاتبة ولماذا يقرأ القارئ لها بكل هذا الحب؟
وقت قراءة لم يضع دون فائدة، فدائمًا ستجد قيمة ومغزى يفتح إدراكك لمعاني الإنسانية الغائبة عن حياتنا.
أما عن التفاصيل، فنحن على درجة أخرى من درجات الإبداع، وهي القدرة على وضع القصة على نول صنع الجمال، لنسج خيوطها الدرامية بعشرات التفاصيل التي تحول الحروف المكتوبة في مخيلة القارئ إلى مشهد سينمائي مرئي ومسموع.
أما عن الزينة؟ فحدث ولا حرج.
هل سمعتم عن امرأة تغفل الجمال؟
هنا أشهد أن اللمسات الجمالية المحلاة بها المجموعة لم تكن من أجل الإبهار أو استعراض العضلات، ولكنها هنا كانت جواهر الاقتباسات التي تحمل قيمة هامة، وجاءت في صميم أحداث القصص. وفي نفس الوقت، هي مولود مكتمل يصلح أن يحيا ويغرد وحده منفصلًا عن كل القصص والحكايات.
والآن تحدٍ صريح:
إلى كل من يقرأ هذا الكتاب الرائع، أن يبدأ في قراءة قصة من قصص هذه المجموعة ويتوقف قبل أن ينتهي منها.
والتحدي الثاني أن يفقد تعلقه وتفكيره بشخصياتها وكأنه عاش حيواتهم أو تمناها.
شكرًا دكتورة سحر الحسيني، مع الرجاء أن تغفري لي فقر حروفي وافتقارها المقدرة على وصف موهبتك وإظهار كل إبداعك في إرثك لنا…“ليس كل الخبز يشتهي.”