في زمن لم يعد فيه للضعفاء مكان تحت الشمس، وفي عالم لم يعد يُدار بالشعارات أو القيم أو المبادئ، كانت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الثانية إلى السعودية رسالة سياسية بلغة المال والسلاح، لا تخفى عن عقلٍ متأمل أو ضمير حيّ.

 


لم يتحدث ترامب عن الديمقراطية، ولا عن الحريات، ولا حتى عن القيم الأمريكية التي طالما كانت بضاعة واشنطن في الأسواق الدولية. تحدث فقط عن “الصفقات”، و”الاستثمارات”، و”الحماية”، و”التهديدات”، تمامًا كما يفعل زعيم مافيا دخل مطعمًا وطلب الجزية من صاحبه مقابل ألا يحترق المكان.

 

كل شيء كان محسوبًا بالدولار.

فـ60 دقيقة من حديث ترامب في مؤتمر الرياض – الذي لم يكن مؤتمرًا بقدر ما كان منصة بيع وشِراء – تمحورت حول لغة واحدة: المال هو سيد السياسة. القوة وحدها هي من تصنع القرار. فمن يمتلك المال يشتري النفوذ، ومن يمتلك السلاح يفرضه.

 


السعودية تدفع، وترامب يوقّع.

أكثر من 300 مليار دولار وُقعت في اتفاقيات وصفقات أسلحة واستثمارات. لم تكن زيارة دبلوماسية بقدر ما كانت زيارة مقاول يوقّع عقود بناء، أو سمسار يرسم خريطة توزيع القوة في الشرق الأوسط حسب من يدفع أكثر.

 

العصر الأمريكي الجديد لا يعترف إلا بالصفقات.

فلا تتحدثوا عن القاهرة ولا بغداد ولا دمشق ولا الجزائر… الدول التي ملأت الدنيا علمًا وثقافة ونفوذًا أصبحت مجرد خلفية للصورة أو ممرًا لعبور المصالح. انتهى زمن القوة الناعمة. لم تعد الحضارة تشفع، ولا الشعوب تقرر. أما الإعلام فباع نفسه في سوق الولاء الجديد، ومن كان بالأمس يتحدث باسم مصر، أصبح اليوم يتحدث باسم دولته الجديدة التي فتحت له الحسابات والمناصب.

 


وماذا عن قطر؟ وماذا عن إسرائيل؟

أمثلة ساطعة على أن الحجم الجغرافي والسكان لم يعودا مقياسًا. قطر، الصغيرة حجمًا، تمثل قوة المال والإعلام. وإسرائيل، المحدودة مساحة، تمثل قوة السلاح والضغط الدولي. بين هذا وذاك، تقف مصر متفرجة، مكسورة، حزينة، غائبة عن المسرح. لا لأن شعبها بلا قيمة، بل لأن أدوات القوة تاهت منها، وتُركت للعابثين.

 

أين مصر؟ غياب الدور وصحوة واجبة

 

إن تأثر دور مصر وتجاهل وجودها، بعد تاريخ طويل من القيادة الحقيقية للأمة العربية والتأثير العميق على محيطها الإقليمي، يطرح سؤالًا وجوديًا على الشعب المصري: إلى متى نظل في غرفة الاستفاقة؟ لقد كانت مصر – لعقود بل لقرون – تقود الأمة لا طمعًا في المال، بل تضحية بما تملك من دم وموارد لصالح العرب من الخليج إلى المحيط. لم تكن قيادتها مشروطة بصفقات ولا مكاسب، بل نابعة من إيمان عميق بالوحدة والمصير المشترك. واليوم، هذا الغياب المؤلم يجب أن يكون ناقوس خطر، ودعوة لإعادة التمركز، حتى لا تنحدر مصر إلى ذيل الأمم بعد هذا التاريخ المجيد.

 


إنها لحظة الحقيقة: إمّا القوة أو الاختفاء.

في عالم ترامب، لا مكان للضعفاء. من يريد أن يكون له مكان مؤثر تحت الشمس، عليه أن يُسلّح، ويستثمر، ويفاوض من موقع قوة، لا من باب التوسّل أو التاريخ المجيد.

 

زيارة ترامب للسعودية لم تكن مجرد حدث سياسي، بل كانت إعلانًا صريحًا لنهاية مرحلة وبداية أخرى، يُصاغ فيها الشرق الأوسط الجديد بيد الدولار والسلاح. وعلى من يريد أن يبقى، أن يفهم المعادلة ويُعدّ أدواته، وإلا… فليحزن على نفسه كما نحزن نحن الآن على وطنٍ كان يومًا منارةً للأمم.

. .l7g3