أن مصر ليست وطن نعيش، لكنها وطن يعيش فينا، تلك مقولة عظيمة لقداسة البابا شنودة رحمه الله .

كثير ما وقفت أمام تلك العبارة علي وجه الخصوص، وكأنها تملؤني، وتحتويني، فالانتماء غريزة فطرية، اكتسبتها بشكل عفوي، انتمائي الي اسرتي وعائلتي، وقريتي ومدرستي وجامعتي، هو ما يجعلني أحب وطني واعتز بانتمائي الي وطني.


أتذكر مقالتي وقت كأس العالم، ونحن نشجع الفرق العربية، لانتمائنا العربي، ثم الدولة الافريقية التي بقيت بعد خروج الفرق العربية هو امتداد لانتمائي الافريقي.

فانتمائي العربي قد يكون بسبب اللغة والدين والثقافة والتقاليد، ولكن العرب يعيشون في شتات، ولا وحدة حقيقية تجمعهم، وان كانت جامعه الدول العربية مجرد برفان، لا يقدم ولا يؤخر ولا يساعد في إتمام حالة من التكامل بين الدول العربية، مما جعل دول الخليج تنشأ كيان موازي هو مجلس التعاون الخليجي.

اما انتمائي الافريقي قد يكون بسبب التفكير في المستقبل والثروة ونهر النيل، ولست مع قول د حسين مؤنس ان مصر ولدت افريقية، وكان عهد الرئيس عبدالناصر هو صحوة التواصل المصري الافريقي، والذي فتر بعد ذلك في عهد من جاء بعده، وقد نكون دفعنا ضريبة ذلك فيما حدث في أزمة سد النهضة، او التخلي عن افريقيا البكر في ثرواتها وخيراتها، والتي قد تكون بشكل حقيقي تمثل المستقبل لمصر.

وهناك من يري امتداد لمصر لدول حوض البحر المتوسط، كالخديوي إسماعيل، وكان ذلك جليا مثلا في الفترة الليبرالية بعد ثورة ١٩١٩.


وانا شخصيا كنت لوقت قريب أرجح انتمائي للحقبة الفرعونية ، بغض النظر عما حدث في عهد الاسرات من تعرض مصر لغزاة من الفرس، والاشوريين، والنوبيين، والهكسوس، ولكنها كانت تنتفض وتزيل غبار كل الغزاة.

ومن منطق ان حركة التاريخ لا تتوقف ، وان مصر من اعظم دول العالم المركزية في التاريخ، وانها مرت بمراحل انتصارات عظيمة، وجاء عليها مراحل ضعف واضمحلال وتقهقر، وتلك طبيعة الدول الكبرى كمصر.

لكن ما اعرفه جيدا ان مصر بلد عظيم وترك لنا الأجداد ارث حضاري وتاريخي كبير، سنظل نتباهي به امام العالم كلة الي نهاية الحياة.

وان الشخصية المصرية انصهرت في كل الحضارات التي عايشتها، وامتزجت بها، بل قدمت الكثير للحضارة الإنسانية، مصر التي عرفت الطب والفلك والهندسة والتحنيط، واقامه العمارة الشاهدة علي عظمة ملوكها، فقد كانت كبيرة في وقت كان العالم البربري يعيش في ظلام.


انتهت الحقبة الفرعونية بكل تاريخها باحتلال الاسكندر الأكبر مصر، والذي اسعد المصريين كثيرا بوصوله ليخلصهم من ظلم الفرس وطغيانهم، والتي قسمت مملكته بعد وفاته بين امراء جيشة وكانت مصر من نصيب بطليموس، ولتبدأ حقبة جديدة علي مصر هي حكم البطالمة، والذي انتهي بعد عشرات السنوات انتصار أوكتافيوس علي ماركو أنطونيو فأصبحت مصر ولاية رومانية، وندخل في حقبة جديدة.

وقد استفاد المصريين من اليونان والرومان وأخذوا عنهم الفلسفة، وخسر المصريين لغتهم القديمة الهيروغليفية وحلت مكانها اللغة القبطية، وفي عصر اليونانيين كتبوا اللغة القبطية بحروف يونانية، وبعد قرون من دخول الإسلام تحولت المراسلات في الدواوين الي اللغة العربية، وظلت اللغة القبطية داخل الكنائس والاديرة.

وكما رحب المصريين بالإسكندر الأكبر وقت قدومه ليخلصهم من ظلم الفرس قام الوالي الفارسي بتسليم المدينة للإسكندر بدون قتال، وتجدد الحال وقت وصول العرب فرحب المصريين بهم ليخلصوهم من ظلم الدولة البيزنطية، ولتبدأ حقبة جديدة في حياة المصريين وهي حقبة الحكم العربي.

كانت مصر فيها دولة تابعة للخلافة الإسلامية، ثم الامويين والعباسيين، وحقب أخري كثيرة من حكم الاسرة الطولونية والاخشيدية، حتي كانت مقرا للخلافة الفاطمية، وبعدها حكم الدولة الايوبية ثم المماليك نهاية بالدولة العثمانية.

قد تكون حقبة دولة المماليك والدولة العثمانية هي اسوء فترات مرت علي مصر برغم الإرث الحضاري والتراث الإسلامي الشاهد علي تلك الحقبة وما قبلها.


وصولا الي الوقوع تحت الاحتلال الفرنسي وما تركه من اثار إيجابية انعكست علي المصريين لكنها لم تطول، وبدا حكم اسرة محمد علي مؤسس مصر الحديثة، لكن ضعف من جاء بعده اوقعنا تحت الاحتلال الإنجليزي، حتي تم الجلاء والاستقلال الكامل والتام لمصر .

فمصر طوال تاريخها استطاعت ان تتعايش مع كل الظروف التي عايشتها.

قبل حركة الضباط الاحرار كانت مصر بها كل سمات تقبل الحضارة الإنسانية فكان يعيش فيها جاليات يونانية ورومانية وايطالية وفرنسية وارمن ويهود وغيرهم من جاليات اخري بجانب المصريين من مسيحيين ومسلمين ، ومازال البعض منهم حتي الان .

وبعد عبدالناصر حاول السادات القضاء علي الناصريين، فسمح للجماعات الإسلامية بالتغلغل داخل المجتمع المصري والذي أدي الي تغيرات جسيمة في بنيانه، فمصر التي لم تعرف التعصب والعنصرية أصيبت بعدوي التعصب الديني، وتعرضت مصر في عهده الي قطيعه عربيه بسبب اتفاقية كامب ديفيد، لكن بفضل دبلوماسية مبارك عادت مصر الي محيطها العربي وعاد مقر الجامعة العربية الي مصر.

ولكن من المؤكد بعد كل هذا استطيع ان أجزم ان مصر فرعونية، قبطية، إسلامية، عربية، بحر متوسطية، افريقية.

وعلي الدولة بكل مؤسساتها وسلطانها ان تعزز قيم الولاء والانتماء بكل الوسائل التي تمتلكها، وكذلك المجتمع المدني والأحزاب والجمعيات والنقابات وكل فرد في المجتمع علية ان يفتخر بكونه مصري وينتمي الي هذا الوطن الكبير بتاريخه وحضارته، وبما قدمة للبشرية من اسهامات دفعت العالم الي الأفضل .

. .of7i